تنازل مجاني أم اضغاث احلام؟!
غاب عن الوفد العربي الذي "حج" إلى بلير هاوس للقاء وزير الخارجية الاميركي جون كيري ونائب الرئيس جوزيف بايدن أدنى درجات الحكمة وهم يتعهدون بقبول العرب فكرة تبادل الاراضي مع إسرائيل ما منح الاستيطان الاسرائيلي في الاراضي المحتلة “شرعية” عربية دون أن يحصلوا مقابل ذلك على أي تنازل إسرائيلي.
ربما حاول الوفد العربي ولجنة متابعة مبادرة السلام العربية برئاسة رئيس وزراء دولة قطر حمد بن جاسم خلق ارضيات مشتركة مع الجانبين الأميركي والإسرائيلي لتمهيد الطريق نحو استئناف عملية السلام على مسارين متزامنين واحد بين الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني والآخر بين الجانب الاسرائيلي والجامعة العربية. الأنكى من هذا وذاك هو أننا لا نعيش في سياق استراتيجي مغاير إذ ما زالت واشنطن معنية بادارة النزاع وليس حله وهو ما فات الوفد العربي الذي تصرف كالغريق عندما يتمسك بالقشة!
فقيام حمد بن جاسم- بحضور الوفد العربي- باعرابه عن استعداد العرب القبول بمبدأ تبادل الاراضي مع إسرائيل يعكس جهلا عربيا مطبقا بكيف تفكر الولايات المتحدة وإسرائيل عندما تحصلان على تنازلات مجانية ومن دون مقابل وهو ما سيفتح شهية الجانب الاسرائيلي على مزيد من التنازلات، فالعرب بهذا التعهد إنما أخرجوا جنيا من قمقمه، فبضربة واحدة قام الوفد العربي ومن جانب واحد بالغاء قدسية الخط الأخضر وبالقبول بأحد تفسيرات القرار ٢٤٢ الجائرة والتي منحت الاستيطان الإسرائيلي في الاراضي الفلسطينية المحتلة “شرعية”!
هناك رأيان عربيان يتعلقان بالتصريح القطري الذي بعث برسالة واضحة لإسرائيل بأن بامكانها الاستمرار بالاستيطان طالما أنه سيكون جزءً من الاراضي العربية التي سيتم ضمها لإسرائيل في سياق معادلة تبادل الاراضي.يقول الرأي الأول ان الوفد العربي لا يمتلك التفويض لتقديم تنازل تاريخي من هذا النوع وإن كان لا بد من تقديمه فلماذا لا يأتي في سياق انهاء الصراع ومنح الفلسطينيين حق تقرير المصير واقامة دولتهم وعاصمتها القدس. اصحاب هذ الرأي يقولون أن التنازل قدم لتمكين الجانب الأميركي وجون كيري تحديدا لاقناع إسرائيل باستئناف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني مع أنه لا توجد ضمانة لنجاح عملية السلام حال استئنافها.
وهناك رأي آخر يردده مقربون من الرئيس الفلسطيني ابو مازن وتيار "الاعتدال" العربي يرى أن لا جديد في التصريح القطري على اعتبار أن قرار مجلس الامن ٢٤٢- الذي قبل به العرب- ينص على انسحاب اسرائيل من اراض كانت قد احتلتها عام ١٩٦٧ ولم يشر الى انسحاب اسرائيل الى خط الرابع من حزيران.
ويرى اصحاب هذا الرأي أن الرئيس عرفات كان قد قدم نفس التنازل في محادثات كامب ديفيد وهي محادثات فشلت بسبب موقف اسرائيل من القدس وليس بسبب معارضة عرفات لفكرة تبادل الاراضي. وتيار المفاوضات في السلطة مع تبادل الاراض ويكفي النظر الى اتفاقية جنيف التي وقعت بين وفد فلسطيني غير رسمي مع نظيره الاسرائيلي غير الرسمي في عام ٢٠٠٣ ايضا وفيها قدم الوفد الفلسطيني نفس التنازل! وحتى المفاوضات التي اعقبت مؤتمر انابوليس بين عباس واولمرت تناولت نفس الفكرة وكان الخلاف فقط على نسبة التبادل وليس على المبدأ ذاته. وعلى هذه الخلفية يتساءل اصحاب هذا الرأي: ما الجديد الذي يستوجب اثارة زوبعة من الانتقادات؟!
غاب عن اصحاب الراي الثاني أننا لا نعيش في سياق مغاير حتى تبرر مثل هذه الخطوة، ويبدو أن جون كيري متأثر برأي كان قد جاء به مارتن ايندك قبل سنوات يفيد أن انطواء اسرائيل في تحالف مع عرب "الاعتدال" ضد إيران يتطلب ادارة لعملية السلام وهكذا جاءت عملية انابوليس. لكن علينا أن ناخذ بعين الاعتبار ان لا استمثار رئاسي في عهد اوباما في عملية السلام وان تفويض كيري جاء ليجنب الرئيس كلفة الفشل وكأن الرئيس اوباما يعرف حدود قوة تأثير ادارته على الحكومة الاسرائيلية.
وفي المقابل وناهيك عن غياب الجدية الأميركية في المضي لحل الصراع بدلا من ادارته انتبه الاسرائيليون للأمر ولم يبدو الحماسة التي انتظرها ربما بعض العرب، فنتنياهو الذي عارض مبادرة السلام العربية عندما اطلقت في قمة بيروت عام ٢٠٠٢ لا يفكر في ابداء تقديره للخطوة العربية وهو ينظر بجدية لأمرين هما: كيف لاسرائيل ان تتجنب سيناريو دولة ثنائية القومية التي تتحقق بعدم الانفصال (حتى لو اخذ شكل حل الدولتين) وما هي الخطوط الحمراء التي يضعها ائتلافه مع احزاب اسرائيلية لا تؤيد الانسحاب الى حدود جديدة تتضمن تبادلا للاراضي. وبالفعل قام رئيس حزب البيت اليهودي- بينيت- بالاتفاق مع رئيس حزب هناك مستقبل- يائير لبيد- لتمرير قانون في الكنسيت يخضع اي اتفاقية مع الفلسطينيين لاستفتاء شعبي معروفة نتائجة مسبقا بسبب ديناميكية القوة الاسرائيلية المعادية لفكرة الانسحاب حتى في سياق اتفاق شامل مع الفلسطينيين.
وهنا تتجلى المفارقة بابشع صورها: عرب مندلقون مقابل اسرائيل غير المعنية. فالعرب الذين يعانون من انكشاف استراتيجي مرعب لم ينجحوا بقيادة القطري حمد بن جاسم في تشكيل اختراق دبلوماسي على أي مستوى، فهذا الفيلم الرديء شاهدناه أكثر من مرة وهو فيلم ضار ومضيع للوقت يدفعنا على استحضار مقولة شهيرة للعالم الاميركي البرت اينشتاين عندما عرّف الغباء بتكرار نفس التجربة مرتين وتوقع نتائج مختلفة!