البحث العلمي والتطوير ... مؤشرا للتقدم
د. عمار سليم الخوالده
جو 24 :
لا يخفى على ذي لبٍّ أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكثر الدول تقدما في مجال البحث العلمي والتطوير، على محمل الإجمال، لا في صعيد واحد متخصص فحسب. وتتعدد الأسباب وراء ذلك، فهي بالإضافة لما لديها من عقول، تستقطب كثيرا من المواهب من كافة أصقاع الأرض و تهيئ لها بيئة خصبة للإنتاج والعطاء غير آبهةٍ بالأصول ما دام نتاجها يغذي دورة الإنتاج في اقتصادها العملاق.
وفي سبيل ذلك توفر الولايات المتحدة بنية تحتية ضخمة وفعالة للبحث والتطوير تتعدد مشارب تمويلها لتشمل الحكومة الفيدرالية، حكومات الولايات المختلفة، قطاع الصناعة والأعمال، الأكاديميا والجامعات، وبعض المؤسسات غير الربحية. إلا ان نصيب الأسد في تمويل وممارسة البحث والتطوير يأتي من قطاع الصناعة والأعمال وبنسبة تقارب 70%.
تاريخيا، كان للولايات المتحدة دور الريادة في تنمية قطاع البحث والتطوير عالميا، فبعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية بلغت مساهماتها في تمويل البحث والتطوير قرابة 69% من إجمالي الإنفاق العالمي في هذا المجال. وقد انخفضت النسبة إلى 28% عام 2016 إلا ان ذلك لا يعني انخفاض انفاقها على البحث العلمي بل زيادة حصص الدول الأخرى مما يخفض النسبة وإن زاد الإنفاق كما سأوضح لاحقا.
لقد بلغ إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير في الولايات المتحدة عام 2016 فقط قرابة 516 مليار دولار منها 360 مليار من القطاع الصناعي (بنسبة 70%) و 115 مليار من الحكومة الفدرالية (بنسبة 22.3%) و 18 مليار من الجامعات (بنسبة 3.5%) و 19 مليار من المؤسسات غير الربحية (بنسبة 3.7%) و 4 مليار من حكومات الولايات المختلفة (بنسبة 0.8%).
أما فيما يتعلق بإجراء وتنفيذ البحث والتطوير (بغض النظر عن مصدر التمويل) فقد كان نصيب القطاع الصناعي 360 مليار (70%)، في حين نفذت الجامعات قرابة 14% من هذا الجهد (72 مليار دولار)، والحكومة الفدرالية قرابة 11.5% (59.3 مليار دولار), والمؤسسات غير الربحية 4.5% (23 مليار دولار) وما تبقى قامت به حكومات الولايات المختلفة.
على عكس الانطباع السائد أن الجامعات هي موئل البحث العلمي والتطوير، نجد أن القطاع الصناعي هو الرائد وبلا منازع في هذا المجال كما تشير الأرقام المذكورة آنفا. وأنا على اطلاع شخصي بحكم عملي في مجال البحث والتطوير في القطاع الصناعي لسنين عديدة إذ ان البيئة البحثية الصناعية في الشركات الكبرى (وكثير من الشركات الصغيرة والمبتدئة) متقدمة وبشكل واضح على نظيراتها في الجامعات. ففي الوقت الذي عملتُ به مع شركة إنتل قبل ردح من الزمن كان هنالك ما يقارب 800 حامل لشهادة الدكتوراه ومن مختلف التخصصات في مركز تطوير التكنولوجيا الذي كنا نعمل به. وعندما انتقلت بعدها إلى شركة تكساس انسترمنتس كان هنالك ما يقارب 400 حامل للدكتوراه في مركز تطوير التكنولوجيا. وأما في الشركة التي أعمل بها الآن (باسف) فقد بلغ الإنفاق على البحث والتطوير في العام الماضي 2018 أكثر من ملياري دولار. وتشير الإحصاءات أن الشركات الفاعلة في مجال البحث والتطوير في الولايات المتحدة توظف قرابة 19.3 مليون شخص منهم 1.5 مليون في مجال البحث والتطوير، أي أن قرابة ال 8% من موظفي هذه الشركات يعملون بالبحث والتطوير. وبما أن هذه الشركات ربحية فقد حققت مبيعات تقدر ب 9 تريليون دولار. وهذا مؤشر قوي ان البحث والتطوير يؤتي ثماره وبشكل مباشر في هذه الشركات. هذا لا ينفي إطلاقًا ان كثيرا من الإنجازات العلمية الكبرى خرجت من رحم البيئة البحثية الأكاديمية، لكن نسبة إسهامها أقل بالمجمل.
طبعا لا يمكن الحديث عن البحث والتطوير دون الغوص في مكوناته الأساسية. فهنالك البحوث الأساسية والتي بلغ إجمالي الإنفاق عليها عام 2016 ما يقارب 88.6 مليار دولار، والبحوث التطبيقية والتي أُنفق عليها 104.6 مليار دولار ، وأما التطوير فكان نصيبة 322.1 مليار دولار.
وإذا اردنا سبر أغوار هذه الأرقام بشيء من التفصيل وجدنا أن ال 88.6 مليار المنفقة على البحوث الأساسية تتوزع كالآتي: 42.3 مليار دولار (47.7%)
تم انفاقها في الجامعات، 24.6 مليار دولار (27.8%) في قطاع الصناعة والأعمال، 11.2 مليار دولار (12.7%) في المؤسسات غير الربحية، 10.3 مليار دولار (11.6%) في الحكومة الفدرالية، وما تبقى في حكومات الولايات المختلفة.
نلاحظ هنا انه وبالرغم من أن الجامعات (وكما هو متوقع) تستحوذ على النسبة الأعلى من البحوث الأساسية، إلا أن نصيب القطاع الصناعي (اكثر من الربع) في هذا المجال لا يمكن إغفاله، بل هو ملفت للنظر. ويأتي ذلك لإدراك الشركات أهمية البحوث الأساسية والتي قد لا يكون مردودها سريعا لكنه مُجزِئ على المدى الطويل.
في قطاع البحوث التطبيقية تتوزع ال 104.6 مليار المنفقة كالتالي: 61 مليار (58.3%) في قطاع الصناعة والأعمال، 19.1 مليار (18.2%) في الجامعات، 17.4 مليار (16.6%) في الحكومة الفيدرالية، 6.6 مليار (6.3%) في المؤسسات غير الربحية، و ما تبقى في حكومات الولايات المختلفة.
وأما في قطاع التطوير والذي أُنفق عليه 322.1 مليار دولار عام 2016 فقد كان نصيب قطاع الصناعة والأعمال قرابة ال 289 مليار دولار (89.7%)، تليه الحكومة الفدرالية ب 23.4 مليار دولار (7.3%)، ثم الجامعات بمبلغ 6.5 مليار دولار (2%)، والمؤسسات غير الربحية ب 3.2 مليار (1%).
هذا في الولايات المتحدة، فما هو حال الدول العربية في هذا المجال؟ لم أجد أرقاما يمكن الإعتماد عليها بشكل وازن لكن اجمالي ما تنفقه الدول العربية مجتمعة على البحث والتطوير قد لا يتعدى 30 مليار دولار سنويا في أحسن الأحوال وهو مبلغ زهيد جدا وخصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن قيمة الصناديق السيادية العربية تقدر بأكثر من 2 تريليون دولار . علما بأن تركيا وحدها تنفق ما يقارب ال 15 مليار دولار سنويا على البحث والتطوير في حين تنفق السعودية 6 مليار وتنفق قطر 1.3 مليار، وتنفق الكويت 0.8 مليار، وأما الإمارات ف 4.2 مليار. ومصر 6 مليار، أما انفاق هذه الدول على التسلح (دون تركيا) فيفوق المئة مليار دولا سنويا.
وحتى لا يقول قائل أن الأرقام المطلقة قد لا تعني الكثير فقد بلغت نسبة الإنفاق على البحث والتطوير في الولايات المتحدة إلى الناتج المحلي الإجمالي 2.8%, أما في اليابان فهي 3.2%، وفي ألمانيا 3.04%، والصين 2.13%، وإذا عدنا إلى قائمة الدول العربية الغنية فنجد السعودية 0.82%، والإمارات 0.96%، وقطر 0.51%، والكويت 0.08%. أما الأردن ف0.72%.