مهنة الكلام
الكلام ليست مهنة محصورة بقطاع وشريحة وفئة اجتماعية معينة . تذهب الى سوق الخضار «الدلالال» يصرخ وينادي يروج لبضاعته، ويجمع حوله جمهورا من التجار والمواطنين. وفي سوق الحرامي يصطف مئات من مشغلي البسطات ينادون باعلى الاصوات، وتنبحُّ حناجرهم وهم يعرضون الملابس والاحذية، ويجلبون المارة لشرائها.
وحتى «بكب» بيع اسطوانات الغاز يستعين بمبكر صوت، وشخص دوره النداء وتنبيه الاهالي بان سيارة الغاز تمر من الحارة. وفي سوق» الحلال « كل بائع اغنام يقف على بسطة الاغنام وينادي ويشير بصوت عال الى بضاعته ويعرض على مسامع الجمهور جودتها محاسنها وميزاتها واسعارها .
في الانتخابات هناك محترفون ومتخصصون في الخطب والنشيد وتكرار الشعارات والهتاف . وكذلك في المسيرات هناك طابور من الهتيفة، يلقنون مجموعة من الشعارات والعناوين، وينطلقون في ترديدها باصوات عالية وحسب الموجة والجو العام، احيانا عروقهم تخرج من رقابهم، واحيانا اخرى يكونوا هادئين وبغاية الروقان.
ملاعب كرة القدم مرمى شاسع وعميق لهذه الظاهرة. وحبكة الدراما تتعقد كثيرا في مباريات كرة القدم بين الاندية التقليدية المتنافسة الفيصلي والوحدات. وكما لمباريات كرة القدم نجوم على الملعب فهناك اخرون ايضا بين الجماهير، صانعو هتافات ويحركون الجماهير يمنيا وشمالا.
في مصر عادة اجتماعية ايضا مرتبطة بما أتحدث عنه، ولربما ان مظاهر طقوسها انسحبت الى بيوت العزاء الاردنية. ندابون: يبكون وينوحون عن روح المرحوم في بيت العزاء، واكثر ما تكون في بيوت عزاء السيدات.
قديما في القرى والحارات كان هناك اشخاص يسمون»نقالين حكي». ودروه بنقل الحكي من فلان الى علان. وكم من مشاجرة وهوشة اندلعت من وراء «نقالي الحكي» !؟
وكل السابقين هول كلامهم اقل ضررا وايقاعه اصدق على مسامع الجماهير من بعض الإعلاميين وبعض السياسيين. تاجر الخضار والغاز والاحذية بضاعته واضحة ومبينة وغشها محدود ومكشوف، ووجه حقيقي لا يقدر على ارتداء الاقنعة واقتلاعها من تشأ الظروف والمتغيرات والمغريات والاحوال.
على فكرة قد يختلف معي كثير،و لكن الكلام مهنة، وان كانت غير مصنفة ومدرجة في سجلات المهن في وزارة العمل. فهي تحقق مردودا ماليا، ودخلا شهريا، ويجمع من ورائها المال، ويندرج تحت ابوابها انواع واصناف كثيرة من مهن الكلام.
ولو يجري تصنيفه اكاديميا ويكون هناك تخصص ومساق في الجامعات اسمع « مهنة الكلام «. اقول هذا الكلام ورأسي موجوع من الصراخ المدوي الذي يملأ المجال العام، والعقول تحولت الى اسطوانات هواء، والقلوب جفت من الاصوات العالية، والالسن صارت مثل اقشطة الماتورات، اعذروني عن قسوة وصف الحواس، ولكن هذا هو الحال!