لماذا لا تريدُ الدولةَ أحزاباً سياسيةً حقيقيةً؟
د. داوود المناصير
جو 24 :
إنّ أيَّ مجتمعٍ يريدُ التقدُّمَ عليه أولاً أن يتحررَ ولا يمكنُ لذلك أنّ يتحققَ إلا بتنظيمِ المجتمعِ لنفسِهِ من خلالِ أحزابٍ تتبنَّى برامجَ سياسيةً اقتصاديةً واقعيّةً تُوْصِلُ بالنهايةِ إلى التحرّرِ.
والتحرّرُ يعني: دعمَ الاستقلالِ السياسيِّ بالاستقلالِ الاقتصاديِّ بحيثُ تستطيعُ الدولةُ التحكُّمَ في جميعِ ثرواتِها الاقتصاديَّةِ مما يُعطيها الحريّّةَ والسيادَةَ التامَّةَ في مواقِفِها واختياراتِها الداخليَّةِ والخارجيَّةِ.
وانطلاقاً من هذا المفهومِ للتحرُّرِ فإنّنا لن نتحرَّرَ في المستقبلِ القريبِ لِعَجْزِنَا عن استغلالِ موارِدِنا المتاحةِ ومنها -على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ- المواردُ البشريَّةُِ المُتَعَلِمَّةُ والثرواتُ الطبيعيّةُ الموجودةُ من فوسفاتٍ ورمالِ السيليكا والصخرِ الزيتيِّ والبوتاسِ وغيرِها ولكنْ ممَّا يبدو من واقعِ الحالِ أنَّ المفروضَ علينا أنْ نبقى على ما نحنُ عليهِ بهذه الصيغَةِ التي نعيشُها.
إن المطلوبَ الاستمرارُ بهذا الشكلِ إلى أَجَلٍ غيرِ مُسَمّىً لأنه الضامنُ الأساسُ لتحقيقِ مصالحِ الآخرِ (الداخليِّ والخارجيِّ) لِمَنْعِنَا من التحرُّرِ حتّى يبقى مُسْتَمٌتِعَاً بفَقرِنا وبُؤسِنا، بَلْ إنَّ المطلوبَ السيرُ بنا إلى الخلفِ بدلاً من السيرِ إلى الأمام.
نحنُ نَعْلَمُ جيداً بأنَّنا لسنا بحجمِ الآخرِ (الخارجيِّ) ولن نستطيعَ مُقارَعَتَهُ أو مشاكَسَتَهُ قبلَ أن نُرَتِّبَ داخِلَنا بتنظيمِ أنفُسِنا واستعدادِنا للتضحيَّةِ الحقيقيَّةِ التي هي وحدَها ستوصِلُنَا إلى الهدفِ.
وكما نشاهدُ الحالةَ القائمةَ التي ينتابُها الكثيرُ من مظاهرِ الغضبِ والتململِ نتيجةَ السياساتِ القهريَّةِ وفي مقدِّمَتِها سلبُ الحرِّياتِ والمقدَّراتِ وانتهاجُ سياساتً عاجزةٍ وبائسةٍ تعملُ على تفتيتِ وبعثرةِ الأردنيينَ ليدومَ الحالُ على ما هو عليه خوفاً من التحرُّرِ وامتلاكِ الإرادةِ.
أعتقدُ جازماً أنَّ هناكَ توافقاَ تامَّاً بينَ الآخرِ من (الخارجٍ والداخلِ) على رسمِ السياساتِ الحكوميَّةِ بهذا الشكلِ لجعلِ الناسِ في حالةِ جَرْيٍ مستمرٍ خلفَ أبسطِ الأشياءِ لِمَنْعِهِمْ من التفكيرِ في التحرُّرِ الحقيقيِّ بمفهومِهِ الذي ذَكَرْتُ.
وعليهِ، فإنَّ الحكومةَ صاحبةَ الولايةِ العامّةِ "والمفترضَ أن تكونََ" تُحارِبُ بشراسَةٍ تشكيلَ أحزابٍ حقيقيَّةٍ وتعملُ على إبقائِهَا أشكالاً كرتونيةً (ديكوراً) خوفاً من أن تتحولَ إلى أحزابٍ حقيقيةٍ ذاتِ قواعدَ شعبيةٍ لأنَّها ستكونُ بدايةً لتحقيقِ الهدفِ. لذلكَ نَجِدُ الحكوماتِ ترفَعُ شعاراتٍ برَّاقةً مناقضةً تماماً لسلوكها الحقيقيَّ غيرِ المُعْلَنِ تُجاهَ الأحزابِ فنُلاحظُ مثالاً؛ ابتهاجَ متَّخِذِي القرارِ بِمَطَالِبِ بعضِ الأشخاصِ بتأسيسِ أشكالٍ وتجمّعاتٍ اجتماعيَّةٍ كبديلٍ عن الأحزابِ السياسيَّةِ على شكلِ مجالسَ للعشيرةِ أو المَخْتَرَات، مع احترامي وتقديري للعشيرةِ كَكِيَانٍ اجتماعيٍّ ساهمَ وسيساهمُ في بناءِ الأردنِّ، الوطنِ؛ ولكنَّ هذه الكِياناتِ لن تكونَ مُجْدِيَةً ومُنتجةً كالكِيانِ السياسيِّ المنظَّمِ الذي يَحمِلُ عقيدةً حزبيةً ترسمُ السياساتِ والبرامجَ وتكونُ ملزمةً لكلِّ مُنتسبِيها.
فلا تحرُّرَ ولا تطوُّرَ للحياةِ السياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ بلا أحزابٍ حقيقيَّةٍ مَبَادِئُها نابعةٌ من حِسٍ وطنيٍّ أردنيِّ المنشأِ والمرجعيَّةِ.