"الكورونا" ونزع القداسة!!
كمال ميرزا
جو 24 :
في زمن الكورونا أنت تستطيع أن تشتري وقية بزر من محمص وفق إجراءات احترازية خاصة، ولكنّك لا تستطيع إقامة صلاة الجماعة في مسجد أو قُدّاسا جماعيا في كنيسة.. ما هي دلالات ومآلات ذلك؟!
من المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع "المقدّس" و"المدنّس" باعتبارهما الأساس الذي يقوم عليه "الوجدان الجمعي" للمجتمع، وهذا الوجدان الجمعي هو مصدر "القيم" التي توجّه سلوك الأفراد والجماعات من أجل خلق وإدامة "التضامن" في المجتمع..
و"المقدّس" هو ما لا يمكن تجاوزه، أو التغاضي عنه، أو تعطيله، أو حتى الاقتراب منه والمساس به أو لمسه من دون ترتيبات خاصة واشتراطات خاصة وطقوس خاصة (مثلا نحن لا نستطيع لمس القرآن الكريم من دون طهارة)..
و"المقدّس" (ونقيضه المدنّس) هما النهايتان الحديّتان اللتان تنتظم بموجبهما وبينهما كامل حياة المجتمع..
كل ما يطرأ أو يستجد في مجتمع ما ينتظم ويُستدمج ضمن بُنية المجتمع تبعاً لمقدّس هذا المجتمع ومدنّسه!!
من الأمور الصادمة التي كشفت عنها ما تسمّى "أزمة الكورونا" هي الانقلاب الحاصل في "مقدّس" و"مدنّس" المجتمعات، على مستوى العالم، وعلى مستوى العالم الإسلامي والعربي!!
هذا الانقلاب يتخذ شكل ما يسمّى "نزع القداسة"، أو بالأحرى النزع "المُمنهج" للقداسة، وإعادة إنتاج المقدّس والمدنّس في أشكال أخرى ومناطات أخرى غير المناطات التقليدية التي اعتدنا عليها!!
أول مظهر صادم في ما يسمّى أزمة الكورونا كان تجاوز وتعطيل المقدّس الديني، والذي يفترض أنّه أقدس المقدّسات وأكثرها حُرمة!!
أول قرار وأسرع قرار وأسهل قرار تم اتخاذه كان تعطيل صلاة الجماعة (وبالمثل قُدّاسات الكنائس) وإغلاق دور العبادة (بيوت الله أول بيوت سرى عليها الحظر)، قبل حتى التفكير بحظر التجوّل في الأسواق (وتاليا سنأتي على ذكر الأسواق).
لم يتم الحديث مثلا عن إيجاد ترتيبات معينة للاستمرار في إقامة العبادات وفي نفس الوقت الوقاية والاحتراز من المرض على غرار الترتيبات التي اتُخذت لاستمرار الأسواق بنشاطها (مرّة أخرى سنأتي على ذكر الأسواق)..
القرار السريع والحازم كان تعليق هذا المقدّس نهائيا..
والحديث الآن يجري عن استمزاج المرجعيات الدينية لإجازة إفطار شهر رمضان هذه السنة، وإلغاء موسم الحج!!
ليست العبرة هنا مدى وجاهة هذه الإجراءات أو شرعيّتها أو تماشيها مع مقاصد الشريعة وأولوياتها، ما يعنينا هنا من منظور اجتماعي وسيكولوجي سهولة طرح وإقرار وتقبّل مثل هذه الإجراءات، سهولة تعطيل وتجاوز المقدّس الديني!!
بل تعدّى الأمر إلى ضده، "تدنيس" كل مَن أراد التمسّك بهذا المقدّس على الرقعة الاجتماعية العامّة، وكلنا شاهدنا الهجوم الشرس والإدانة الشرسة التي تعرّض لها أولئك الذين حاولوا في الأيام الأولى التمسّك بمقدّسهم والاستمرار في إقامة صلاة الجماعة!!
"المقدّس" الثاني الذي تم تعطيله وتجاوزه هو العملية التعليمية (بغض النظر عن مضمونها)، فمن منظور اجتماعي وسيكولوجي العملية التعليمية بحد ذاتها هي "المقدّس" وليس المعلومات والشروحات التي تتخللها.
ومرّة أخرى، تم تعطيل وتجاوز هذا المقدّس والاستعاضة عنه بالممارسة الميكانيكية المسمّاة "التعلّم عن بعد"، وتم "تدنيس" المتمسكين بالعملية التعليمية بشكلها التقليدي حتى لو استدعى الأمر تمديد أو تأجيل الفصول الدراسية، ورجم هؤلاء من قبل أنصار "التقدّم" و"التحديث" و"التطوير" بالتخلّف أو الرجعية أو عدم الواقعية!!
المقدّس الثالث الذي تم تعطيله وتجاوزه هو "حقوق الإنسان" أو "الحقوق المدنية"، مع أن هذه الحقوق من منظور الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة على العقد الاجتماعي هي قمة وذروة المقدّسات على الإطلاق (بل ونهاية التاريخ)!!
وهكذا فُعّلت قوانين الدفاع والطوارئ التي اتخذت في الغالب منحى "بوليسيا" خالصا، مصحوبة بخطاب تعبويّ على غرار الإعلام الحربي يدنّس ويشيطن كلّ مَن تسوّل له نفسه خرق هذه الإجراءت البوليسية، وهو التجييش الذي بلغ حدّ المطالبة بتطبيق "الأحكام العرفية"..
وفي المقابل لم نر نفس قوانين الدفاع والطوارئ هذه تمس وتشتبك بشكل جديّ مع ما يفترض أنّها ممارسات "مدنّسة" أساسا مثل الاستغلال والاحتكار والفساد والتنفيعات واحتكار الثروة في أيدي القلّة وتنصل القطاع الخاص من مسؤولياته تجاه الموظفين والعمّال والمجتمع.. وما يزال تعامل هذه القوانين مع هذه المظاهر تعامل (الرحيم الذي يأمر بالستر ويقبل التوبة)!!
أما رابع المقدّسات التي تم تعطيلها وتجاوزها فهي المجتمع نفسه، بتضامنه وتكاتفه وتعاضده وعادات وطقوس عيشه وتفاعله اليومي، سواء من خلال طرح مفهوم مُغرِض ومسموم مثل "التباعد الاجتماعي" تتجاوز مضامينه الخطيرة حدود الإجراءات الوقائية المطلوبة، أو من خلال استبعاد كل ما هو اجتماعي أو أهلي من الحلول والإجراءات المطروحة لاحتواء الوباء وإدارة الأزمة، أو من خلال تكريس صورة "الآخر" باعتباره مصدر للخطر والمرض، شخص موبوء، وحتى شرير، يجب الحذر والاحتراز منه (تعامل مع كل شخص باعتباره مريضا)!!
جميع هذه "المقدّسات" تم تعطيلها وتجاوزها بذريعة "مقدّس" أعلى هو "الحفاظ على الحياة" و"حماية البشرية" و"صون الحضارة الإنسانية" (وهي نفس المقولات التي تمّ بذريعتها إبادة السكان الأصليين لأمريكا الشمالية مثلا أو غزو العراق وقتل وتجويع وتشريد الملايين)!!
أمّا المقدّس الوحيد الذي نجا من كلّ هذه الإجراءات، المقدّس الوحيد الذي لم يجرؤ أحد على المساس به، المقدّس الوحيد الذي لم يجرؤ أحد على مجرد التفكير بتعطيله وتجاوزه، المقدّس الوحيد الذي يخشى الكل عليه، المقدّس الوحيد الذي يعتل الجميع هَم الحفاظ عليه وصونه وإدامته ودفعه.. فهو الاقتصاد!!
الاقتصاد هو المقدّس الذي لا مقدّس بعده، والمنتهى الذي لا نهاية بعدها!!
والاقتصاد لا يعني عمليتي الإنتاج والاستهلاك، وإنّما يعني الطريقة التي تنتظم بها وتدار بموجبها عمليتي الإنتاج والاستهلاك..
لا أحد يتحدث عن إدامة الإنتاج والاستهلاك (من أجل الحفاظ على الأرواح وحماية البشرية وصون الحضارة).. الكل يتحدث عن إدامة الاقتصاد، عن إدامة الرأسمالية، عن إدامة عمليتي الإنتاج والاستهلاك وفق شروط الرأسمالية و"قوانينها" حتى لو عنى ذلك أن يشبع بشر ويجوع بشر.. يشفى بشر ويمرض بشر.. يزداد القلّة ثروة وسلطة ويزداد الأكثرية فقرا وشقاء أو يموتون ببساطة!!
وهذا "المقدّس" الذي لا مقدّس بعده أو فوقه، الرأسمالية، يأتي معزّزا بمقدّسين اثنين أصغر منه يحملان عرشه:
المُقيدَس الأول (تصغير مُقدّس) هو "الخطاب العلمي"، حتى لو كان يستند على "علم زائف" كذلك العلم الذي نسمّيه "علم الاقتصاد"، أو على علم ظنّي توقّعي ترجيحي كعلمنا بالفيروسات (أو الفيزياء والكيمياء) ونظنّها واهمين علوما يقينية.
والمُقيدَس الثاني هو "الحتميّة التكنولوجيّة" التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها!!
أزمة الكورونا كشفت بشكل صريح ما كان يقال ضمنا أو على استحياء في السابق: "الرأسمالية" هي قدس الأقداس في هذا الزمان، وهي الإيمان الذي يتشرّبه كل فرد في أعماق أعماقه حتى ولو بطريقة غير واعية.. وبقية المقدّسات هي في خدمة الرأسمالية تُفعّل وتُعطّل بمشيئتها، وتُوظّف ويعاد تعريفها وإنتاجها وفق مقتضياتها!!
بل إنّ الكورونا نفسها، وبغض النظر عن حقيقتها الموضوعية، سيناريوهاتها ومآلاتها ستحدد وفق مشيئة الرأسمالية الحالّة في المصرف والبورصة والمصنع والسوق، معابد الديانة الرأسمالية الحديثة، ومن خلال وكلاء هذا الربّ الرأسمالي في الأرض، سدنة وكهنة هذه المعابد العصرية من مالكين ومجالس إدارة ومدراء تنفيذيين وتكنوقراطيين أداتيين الذين يحتكرون سر "الكتاب" وسر النقد (حجر الفلاسفة الذي يحوّل النحاس إلى ذهب أو الومضات الإلكترونية إلى سلطة وسيطرة وتحكّم)!!