وحدة ساحات لا وحدة جبهات!
جو 24 :
كتب: كمال ميرزا
يخلط الغالبيّة بين مفهومي "وحدة الساحات" و"وحدة الجبهات"، وهذا ما تبدّى جليّاً فور إعلان سريان وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، والذي اعتبره الكثيرون كسراً لمبدأ وحدة الساحات وتركاً لغزّة وحيدة في "الميدان".
وحدة الساحات هي مبدأ إستراتيجيّ ينضوي إلى جانب أبعاده العسكريّة والسياسيّة والتعبويّة على وازع دينيّ وواجب قوميّ والتزام أخلاقيّ، أمّا وحدة الجبهات فهي قرار تكتيكيّ عملياتيّ تحدده الحقائق والمعطيات والظروف الموضوعيّة على الأرض.
لذا فإنّ وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانيّة لا يعني أنّ جنوب لبنان لم يعد "ساحة حرب" و"خط مواجهة" ومصدر تهديد دائم للعدو الصهيونيّ.
والمقاومة اللبنانيّة لم تعلن مثلاً إنهاء حالة العداء مع الكيان الصهيونيّ، أو إبرام اتفاق سلام معه، أو الدخول معه في صفقة تطبيع.. حتى يقال أنّها تراجعت عن مبدأ "وحدة الساحات" أو تخلّت عنه.
ووقف إطلاق النار لا يعني أنّ الدنيا باتت "قمرة والجو ربيع" بالنسبة للكيان الصهيونيّ، وأنّه الآن يستطيع الركون للراحة والسكينة، وأنّه يستطيع الآن أن يسحب قوّاته بكلّ هدوء وطمأنينة وثقة من جبهة الشمال ليزجّ بها في غزّة والضفة.
بإطلاق نار أو بدونه، الكيان الصهيونيّ مضطر للاحتفاظ بقوات جاهزة ومستنفرّة في الشمال تحسّباً لأي طارئ، وبأعداد وعتاد يتناسبان مع حجم "الخطر" الذي يمثّله "حزب الله" أو الذي أثبت أنّه يمثّله خلال المواجهة الأخيرة. أي أنّ الإشغال وتشتيت قوّات العدو وموارده وتركيزه هي مسألة حاصلة حاصلة في الحالتين، وهذا هو جوهر الإسناد!
صحيح أنّ فتح جميع الجبهات على مصراعيها بشكل متزامن وفي نفس الوقت قد يتبدّى نظريّاً قمة الإسناد، ولكن الحصافة والذكاء في إدارة الجبهات، وتوزيع الأحمال عليها، ومتى تُفتح هذه الجبهة ومتى تُغلق، والحيلولة دون بلوغ أي جبهة درجة الاستنزاف أو النضوب أو الإنهيار.. هي مسألة تفوق في أهميتها مجرد أن تفتح جبهة أو أن تمتلك القدرة على فتح جبهة.
إلى هنا لا بدّ وأن يتبادر السؤال: ماذا عن غزّة وما تتعرض له من إبادة تعدّت منذ وقت طويل مرحلة الاستنزاف، ألا يسري عليها أيضاً هذا الكلام؟!
قدر غزّة في هذه الجولة من الصراع أنّها ليست جبهة أخرى من جبهات المواجهة، ليست جبهة إسناد، بل هي بؤرة المواجهة وبقيّة الجبهات هي جبهات الإسناد.
وقدر غزّة بحكم الموقع والجغرافيا أنّها تقف معزولةً ومحاصرةً، وليس لديها العمق وخطوط الإمداد والخيارات والبدائل المتاحة لبقية الجبهات.
ومع هذا فإنّ الصمود الأسطوري لغزّة لغاية الآن، والذي لا يتماشى مع الحسابات النظريّة بالورقة والقلم، يشي بأنّ غزّة ليست معزولةً تماماً، وليست محاصرةً تماماً، وأنّ هناك إمداداً ما وإسناداً ما رغم كلّ شيء، وهذا ما يعيه العدو تماماً، وهذا ما يُفقده صوابه ويجعله مصرّاً بجنون على إطالة أمد الحرب، وتصعيد إبادته وتدميره وجرائمه، ومحاولة الإجهاز على غزّة منطقةً منطقةً، وحيّاً حيّاً، ومربعاً سكنيّاً مربعاً سكنياً.. وفي نفس الوقت محاولة الموازنة بين هذا الخيار الذي لا بديل له عنه سوى الهزيمة، وبين حقيقة أنّه هو نفسه يُستنزف ويوغل أكثر في إخفاقه وفقدانه لزمام المبادرة.
وبالعودة إلى جبهة لبنان التي ما تزال مصدر استنفار يجبر العدو أن يبقى واقفاً ومتأهباً على أطراف أصابعه، ماذا لو لم يتم وقف إطلاق النار كما نتمنّى جميعاً؟ ماذا لو استمرّ العدو في استهداف بيروت وبقية المدن اللبنانيّة بقصفه الجنونيّ من الجوّ لتعويض إخفاقه على الأرض؟ ماذا لو بدأ فعلاً بتنفيذ تهديداته وشرع باستهداف المناطق والمرافق الخاصة بالدولة اللبنانيّة بجميع مكوّناتها؟ ماذا لو استمرّ العدو في نسف وتدمير مدن وبلدات وقرى الجنوب؟ ماذا لو نجح في إدامة تفريغ الجنوب من أهله وإطالة أمد نزوحهم؟ هل كان لبنان والشعب اللبنانيّ والمقاومة اللبنانيّة وقتها سيكونون في وضع أفضل من الوضع الحالي من أجل إسناد غزّة؟
استنفار أهالي الجنوب للعودة إلى بلداتهم وقراهم فور إعلان وقف إطلاق النار فيه إحباط للمخططات الصهيونيّة، وفيه إسناد لغزّة، يفوق مئة صاروخ ثقيلة تسقط في قلب العمق الصهيونيّ دفعة واحدة!
ألا ترى جنون العدو من هذه العودة؟
كما أنّ المستائين من اتفاق وقف إطلاق النار (وكلّنا مستاؤون ولكن دون أن ننقلب على المقاومة أو نشكّك فيها أو نغمز في قناتها) يُغفلون التآمر الأقذر والمخاطر الأكبر التي استطاع اللبنانيّون درءها من خلال الاتفاق.
فأولاً الاتفاق المُبرَم قطع الطريق أمام الأمريكان للحصول على موطء قدم لهم في الجنوب.
وثانيّاً الاتفاق المُبرَم قطع الطريق أمام المحاولات الخبيثة لفرض رقابة أجنبيّة على المعابر الحدوديّة بين لبنان وسوريا.
وثالثاً الاتفاق المبرم قطع الطريق أمام الذهاب أبعد في توظيف عملاء الداخل، واللعب على وتر الانقسامات الطائفية والخلافات الفصائلية من أجل خلق قلاقل وفتن داخليّة أو احتراب داخلي (مرّة أخرى انظر نفرة أهالي الجنوب المباركة للعودة إلى ديارهم وتقليل ممكنات الاحتكاك والاندساس).
وإذا كان اتفاق وقف إطلاق يُعطي فرصة للكيان الصهيوني من أجل التقاط أنفاسه وتنظيم صفوفه، فإنّ المقاومة اللبنانيّة بفعل كلّ ما كابدته والضربات القويّة التي تعرّضت لها قد تكون أحوج إلى التقاط أنفاسها وتنظيم صفوفها.
ومثلما أنّ الكيان ما كان ليوافق على وقف إطلاق النار لولا أنّ فيه فائدة ومصلحة له.. فإنّ المقاومة اللبنانيّة ما كانت لتوافق عليه لولا أنّ فيه فائدة ومصلحة لها، وكلُّ ما يصبّ في مصلحة المقاومة يصبّ بالضرورة في مصلحة غزّة ومجمل محور الممانعة.
نعم، لا أحد يستطيع أن ينكر أنّ فتح جميع الجبهات على مصراعيها بشكل متزامن وفي نفس الوقت هو السيناريو الأمثل الذي نأمله جميعاً ونطمح به جميعاً، ولكن هذا السيناريو النظريّ متعذّر للأسف على أرض الواقع، أولاً لأنّ العدو هو الآخر لا يقف وحيداً، وثانياً لأنّ جميع جبهات الإسناد على قوّتها وإمكاناتها تفتقر (باستثناء اليمن) إلى الميزة التفضيليّة التي تتمتع بها غزّة، فمقابل العين التي تحتاج المقاومة في لبنان وسوريا والعراق (وحتى الضفّة) أن تفتحها إلى الأمام على العدو.. هي بحاجة لعشرة عيون إلى الخلف كي تتقي غدر أعداء الداخل وطعناتهم في الظهر، في حين أنّ ظهر المقاومة في غزّة يستند إلى "حاضنة شعبيّة" قد أثبتت للجميع وللتاريخ أنّها السند الأقوى والسلاح الأهم من أي سلاح آخر يمكن أن تحمله بين يديك!
وحدة الساحات لا يلغيها تراوح الجبهات وتناوبها، إلّا بالنسبة لأولئك الذين يؤيّدون المقاومة على حرف، أو الذين لا يثقون في المقاومة حقيقةً ويحاولون تسقّط أي شيء يؤكّد انعدام ثقتهم هذا!