ديمقراطيات الزجل الداموري العربية !
جو 24 :
كتب كمال ميرزا -
ما يميّز الديمقراطيّة العربيّة أنّها أصيلة، تستلهم نموذجها الخاص المُستمد من تراثها الثقافيّ والحضاريّ وتجربتها التاريخيّة والاجتماعيّة، ولا تحاول تقليد الآخرين لا سمح الله أو استنساخ تجاربهم الجاهزة!
أول ما يميّز الديمقراطيّة العربيّة أنّها تحافظ على جوهر الأبويّة والعصبيّة واحتكار السلطة والانفراد بالحكم وعبادة الأشخاص.. ولكنّها في نفس الوقت ديمقراطيّة!
وثاني ما يميّزها أنّها تُدار بطريقة تجمع ما بين سواليف المضافات (ثرثرات المقاهي في سياق آخر)، و"الدلعونا" أو "الدحيّة" (أي الزمر والطبل والتسحيج)، ومساجلات الزجل الداموريّة (في إشارة إلى فنان الزجل اللبنانيّ الشهير زغلول الدامور رحمه الله)!
هل سبق لك وأن شاهدتَ جلسة زجل؟
مجموعة زجّالين شعبيّين يعتلون المنصّة، ويتبارزون في مهاجمة بعضهم البعض (في مقابل احتفاء كلّ منهم بسجاياه ومآثره وبطولاته الشخصيّة)، والحطّ من مقدار بعضهم البعض، وقصف جبهات بعضهم البعض، والسخرية من بعضهم البعض.. وذلك بصورة استعراضيّة دراماتيكيّة متصاعدة تأخذ شكل الرد، والرد على الرد، والرد على الرد على الرد.. وهكذا، أو ما يمكن أن نصفه بـ "الردح الفنيّ" إذا جاز التعبير.
أمّا الجمهور فيتوزّعون في خضم هذه الفُرجة حامية الوطيس بين معجب بهذا الزجّال أو هذا الزجّال أو هذا الزجّال، ويتلقّفون كلّ جولة بمزيد من الهتافات والصيحات الحماسيّة لحثّ الزجّالين على زيادة جرعة "الطخّ" وحدّته أكثر وأكثر.
بالنسبة لـ "الغشيم" أو غير المعتاد على جلسات الكيف الشرقيّة هذه، قد يظنّ للوهلة الأولى أنّ هناك حقّاً خلافاً جذريّاً ما بين الزجّالين، وأنّهم يوشكون على الإمساك بتلابيب بعضهم البعض في أي لحظة.. وينسى أنّهم أصدقاء وأبناء كار واحد، ويشربون عَرَقاً واحداً، ويضربون على دفٍّ واحد!
وطبعاً صنعة الزجّال تحتاج إلى موهبة وخبرة وحنكة وكاريزما شخصية وقدرات لغويّة استثنائية وثقافة واسعة ولماحيّة وسرعة بديهة.. وإلا فإنّ جلسة الزجل لن تعود جلسة زجل، وستصبح شيئاً ما أقرب إلى "الشعبولّات" (نسبة إلى الفنان الشعبيّ شعبان عبد الرحيم رحمه الله).
هذه النزعة الداموريّة تجعل من الديمقراطيّة العربيّة في ظروفها الاعتياديّة ممارسةً شكليّة أقرب إلى ما يُسمّى في عُرْف المضافات "تخنيث الهَرْج"، ولا فرق هنا ما إذا كان تخنيث الهرج هذا إيديولوجيّاً أم برامجيّاً. أمّا في الظروف الاستثنائيّة والخطيرة والعاصفة فيسري على مثل هذه الديمقراطيّة أكثر وصف "بجهنّم وبتبـ ....."!
القاسم الوحيد بين الديمقراطيّة العربيّة ونظيرتها الغربيّة أنّ كلتيهما تندرجان من منظور الصناعات الدعائيّة الحديثة تحت باب "الإلهاء" و"تضييع الطاسة"، لا خداعاً للجمهور وتحايلاً عليه، بمقدار ما أنّ الجمهور نفسه يريد أن يتمّ التحايل عليه وتضييع طاسته كي يلتمس لنفسه الأعذار ويُعفي نفسه من تحمّل أي مسؤوليّة!