جائحة "التعلّم عن بعد"!!
كمال ميرزا
جو 24 :
من أحقر المفاهيم التي تم ترسيخها في وجدان الجميع، وأصبحت مُسلّمة، ومنطلقا لأي نقاش وحجج لاحقة، هي ربط "مُخرجات" التعليم (بل التعليم برمته) باحتياجات سوق العمل، وحصر مهمة ووظيفة وغاية التعليم النهائية بإعداد "مؤهلين" يلبّون احتياجات ومتطلبات واشتراطات سوق العمل!!
العلم مطلب بحد ذاته، وغاية في ذاته، وعبادة، وفريضة.. وعلى هذا الأساس تصمم نظامك التعليمي ومناهجك وأساليبك التعليمية (خاصة في مرحلة المدرسة).. أمّا تلبية احتياجات سوق العمل فهي نتيجة جانبية أخرى من نتائج العملية التعليمية وليست غايتها الأساسية ومحرّكها النهائي!!
غاية العلم أن تفهم، أن تعي، أن تفقه، أن يكون لديك حس نقدي، والحس النقدي يعني ربط الممارسة العملية بالقيمة الأخلاقية والمبدأ الإنساني.. في حين أنّ غاية سوق العمل تحييد أي أسئلة متجاوزة لديك، أخلاقية أو اجتماعية أو دينية، لتكون مجرد إنسان أداتي تُقيَّم وتُقيِّم نفسك وفق معايير "الكفاءة" و"الإنتاجية" و"الكلفة" و"القيمة المضافة" بمعانيها المادية البحتة، من دون طرح أسئلة أخلاقية واجتماعية ودينية متجاوزة!!
فرق كبير بين تخريج علماء، أو على الأقل ناس "بتفهم"، وبين تخريج "اسطوات" يتقنون أداء مهام معينة ضمن مجالات معينة كتروس في ماكينة من دون فهم حقيقي أو حس أخلاقي واجتماعي وديني ناقد!!
من هنا نلاحظ مثلا تصالح شخص يعتبر نفسه إنسانا متدينا أو ذا حسٍّ أخلاقي عالٍ أو "مربّى" أو "ابن عالم وناس" أو صاحب قيم ومُثُل إنسانية أو صاحب ثقافة واسعة مع كل الاستغلال و"التقويد" والسفالة والتسلّق والتملّق والحيادية التي يمارسها بشكل اعتيادي و"طبيعي" من خلال وظيفته اليومية (رئيسا ومرؤوسا) بكون مرجعية السوق والأعمال (الاحترافية) غير مرجعية الأخلاق والمجتمع والدين (الساذجة أو التقليدية)!!
قديما كان الجهل غربة، لكن اليوم أصبح التعليم أعتى أدوات "الاغتراب" وأصلف مظاهر "التشيّؤ" (معاملة البشر معاملة الأشياء)!!
الإنسان اليوم "يُغرّب" و"يُشيّأ" من خلال التعليم قبل حتى أن ينخرط في سوق العمل أو الحراك الاجتماعي أو النشاط السياسي!!
كل إجراءات "تطوير" و"تحديث" التعليم خلال العشرين سنة الماضية كان هدفها "تغريب" التعليم أكثر (من اغتراب) و"تشييء" التعليم أكثر لصالح مرجعية السوق وسلطة السوق.. وخرافة ومهزلة ما يسمّى "التعلّم عن بعد" هي دفعة هائلة باتجاه المزيد من تغريب وتشييء التعليم، ومعاملة المعلم والطالب نفسيهما باعتبارهما أشياء!!
إذا كنتم تظنون أن "التعلّم عن بعد" حاجة طارئة استدعتها ظروف عارضة مثل فيروس الكورونا، هلاّ طرحتم على أنفسكم هذا السؤال النقدي (وغالبيتكم متعلمين بتوع مدارس وتحملون كراتين): لماذا تم الاستثمار في التعلّم عن بعد وتجهيز بنيته التحتية وتطبيقاته وإطلاق مبادراته ومشاريعه ومنصاته برعاية رسمية من أعلى المستويات من قبل حتى أن تطرأ فعليا على الأرض أي ظروف طارئة أو عارضة أو تهديدات تستدعي اللجوء إلى هذه الصيغة من التعلّم.. وبرغم وجود أولويّات مُلحّة أخرى تحتاجها العملية التعليمية؟
نفس السؤال وفق منطق السوق: لماذا كل هذا الإنفاق "الاستهلاكي" على سلعة لا يحتاجها أحد أو لم تطرأ الحاجة إليها بعد؟!
الجواب وفق منطق السوق أيضا: ببساطة لأنّ هذا الإنفاق في حقيقته هو إنفاق "رأسمالي" من أجل حاجة صُنّعت تصنيعا تمليها مرجعية السوق واحتياجات وسيرورات نمط الإنتاج!!
مشكلة "التعلّم عن بعد" ليست في تفاصيله الفنية وبنيته التحتية وعدالة توزيعها والوصول إليها.. مشكلة "التعلّم عن بعد" في المبدأ نفسه.. يا متعلمين يا بتوع المدارس والجامعات!!