jo24_banner
jo24_banner

الكورونا و"التطبيع"!!

كمال ميرزا
جو 24 :


جرّب أن تطرح نفس الأسئلة التي كانت تُطرح قبل شهر حول ما يسمّى "فيروس الكورونا"..

تلك الأسئلة "ما غيرها" حول أصل وفصل المرض، والصبغة الهوليوودية للموضوع برمته، وأسلوب التعاطي مع ما يفترض أنّه "جائحة"، وهو الأسلوب الذي يعطيك انطباعا بأنّ الأولوية ليست لمكافحة مرض ما، وإنّما هناك أولويات أخرى تُفرَض وتكرّس وتنفّذ باسم هذا المرض!!

جرب أن تطرح هذه الأسئلة وستُستقبَل من قبل الآخرين بنوع من التململ واللامبالاة والتبرّم، وهناك مَن سيستسمجك ويستزنخك، وهناك مَن سيستتفهك، وهناك من سيعتبرك شخصا "حُقنة" تحب التفلسف والتنطّع على طريقة "خالف تُعرَف".. مع أنّ جميع هذه الأسئلة ما تزال سارية من دون إجابات واضحة وشافية وحاسمة تجاهها!!

جرّب أن تطرح نفس الأسئلة بعد شهر آخر، سينظر لك الغالبية بنَفَس "إنت بإيش والناس بإيش"، وسيتبرّمون ويشيحون بوجوههم عنك، وسيحجمون عن الخوض في مثل هذا النقاش، وسيزداد عدد الذين سيتهمونك بأنّك مسكون "بنظرية المؤامرة"، ومنهم مَن سيقوى نَفَسه و"يحمى عُصّه" ويزاود عليك طاعنا في ولائك وانتمائك، ومتهما إيّاك بأنّك "موتور" تحب البلبلة والتشكيك، وتعارض بهدف المعارضة، وصاحب "أجندات"، وأهواؤك مرتبطة بغير مصلحة بلدك وشعبك ونظامك.. مع أنّ الأسئلة ما تزال هي هي عالقة بلا إجابات، وفوقها المزيد من الأسئلة التي تراكمت خلال هذه الفترة!!

بالنسبة للإعلام الملول الذي اعتاد حرق الزمن والمراحل، فإن المسار أعلاه لا يستدعي حتى كلّ هذه المدة، فأيّ سؤال يكفي أن يُطرح ويُخاض فيه لمرّة واحدة فقط ليتحوّل بعدها إلى مادة قديمة ومستهلكة، ليصار بعدها للبحث عن المادة الجديدة التالية، والعنوان البرّاق التالي، والترند التالي، وعدد المشاهدات التالي.. ولو استدعى الأمر الخوض في تفاصيل وجزئيات على حساب الأساسيات، وإسباغ هالة وتشويق وأهمية وخطورة زائفة على هذه الجزئيات، والاستغراق في "قصص إنسانية" تستثير القرف والغثيان بنمطيتها ودراميتها المفتعلة، ولعبها الرخيص على وتر الأحاسيس والمشاعر الإنسانية!!

الكلام أعلاه يصف ما يسمّى "التطبيع"، أي النظر إلى أمر ما باعتباره "طبيعيا"، وعدم استشعار أي غرابة أو غموض أو شذوذ أو استنكار تجاهه.

والخدعة في "التطبيع" هي الخلط الحاصل والتدليس المفتعل بين ما هو "طبيعي" (ما ينبغي أن يكون) وما هو "واقعي" (ما هو كائن فعليا على أرض الواقع)..

أشهر مثال على مفهوم التطبيع هو التطبيع السياسي؛ فالكيان الصهيوني هو كيان طبيعي (وبالتالي له الحق بالاعتراف والعيش والاستمرار) لمجرد أنّ هناك على أرض الواقع شيء ما اسمه "دولة إسرائيل"، تعترف بها الأمم المتحدة، وترتبط معها بعض الدول العربية بما يسمّى "اتفاقيات سلام" و"مبادرة سلام عربية"!!

نفس المنطق، منطق تطبيع "الشاذ"، وتحييد الحس النقدي تجاهه ومشاعر الرفض والاستنكار والاستهجان نحوه يمكن أن يسري على أي موضوع آخر (ومن ضمنها الكورونا)!!

من هنا يأتي هذا الارتباط الوثيق واللصيق بين التطبيع وسياسة "الأمر الواقع"!!

وفرض "أمر واقع" جديد على الأرض أيّا كان هذا الأمر الواقع يحتاج إلى "قوة"، سواء القوة بمعناها الخشن المباشر (مثل الاحتلال في حالة الكيان الصهيوني)، أو القوه بالمعنى الناعم غير المباشر، كأن تقوم سلطة "شرعية" ما بفرض الطوارئ أو الأحكام العرفية من أجل تحقيق أهداف وطنيه سامية أو ضمان مصالح وطنية عليا (وبما يتيح لهذه السلطة لاحقا اللجوء للقوة الخشنة إذا استدعى الأمر ذلك من دون رقبب أو حسيب أو معارضة)!!

أما أهم عاملَين لنجاح عملية فرض أمر واقع جديد فهما "الزمن" و"الجدل"..

"الزمن" من خلال المطمطة والتطويل لحين الانتهاء من إرساء "البنية التحتية" اللازمة للأمر الواقع الجديد، سواء البنية التحتية بمعناها المعنوي عقليا ونفسيا واجتماعيا وكحالة من الوعي العام، أو البنية التحتية بمعناها المادي المباشر كأنظمة وتعليمات وإجراءات وتكنولوجيا وتطبيقات!!

و"الجدل" من خلال جعل التفاصيل هي مناط الاهتمام وموضع النزاع، سواء بتغييبها في البداية بحيث يصبح الناس أنفسهم يتساءلون عنها ويطالبون بها، ومن ثم إغراق الناس بهذه التفاصيل، وأحيانا التفاصيل المتباينة والمتضاربة، والرواية ونقيضها، بحيث يكون خوض الناس في هذه التفاصيل أكثر وأكثر، واختلافهم عليها وتجادلهم و"تجاقمهم" إزاءها هو تكريس للمبدأ الأساسي والفكرة الأساسية والمقولات الأساسيه والمزاعم الأساسية (كحق اسرائيل بالوجود أو حقيقه الكورونا) باعتبارها مسلمات مفروغ منها وتحصيل حاصل!!

حاول أن تطبّق الكلام أعلاه على أسلوب "السلطة" في التعامل مع فيروس كورونا لغاية الآن، وهذه "المطمطة" الظاهرية والمد والجزر الظاهريين اللذين يعتريان خطاب وإجراءات السلطة بصورة متناقضة يعزوها البعض للتخبّط وانعدام الخبرة وضعف الكفاءة، ويعزوها البعض الآخر لعوامل أخرى مثل الترهل والفساد وازدواجية المعايير.. الخ!!

بعد مرحلة فرض الأمر الواقع تأتي مرحلة "التوطين"، أي "توطين" الناس وتوطين الأنفس وتوطين الوعي على الأمر الواقع الجديد استكمالا للانتقال من حال لحال، ومن طور لطور، ومن نظام قديم إلى نظام جديد!!

مسار التعامل مع الكورونا هو مسار "تطبيع" بامتياز، تطبيع بسيف الأمر الواقع من خلال المطمطة والجدل، وتطبيع من أجل الانتقال إلى نظام جديد، أو ما يسعى الخطاب الرسمي والإعلام إلى "توطينه" في نفوس الناس كنوع من "البرمجة الاستباقية" عبر كل ذلك الحديث عمّا يسمّى "عالم ما بعد الكورونا"!!

أنتَ تحتاج إلى أسبوعين لفرض "رواية رسمية" جديدة تكون "المرجعيّة" التي تُقاس إليها جميع الروايات الأخرى حتى الروايات المعارضة والمشكّكة والرافضة.. وقد تم ذلك بنجاح!!

وأنتَ تحتاج إلى ثلاثة أشهر على الأقل لفرض أمر واقع جديد، وارساء بنيته التحتية في الأنفس، وكنمط للسلوك، وماديا ولوجستيا على الأرض.. وهو ما يتم حاليا على قدم وساق!!

وأنت تحتاج إلى حوالي السنتين من أجل استكمال عملية التوطين، أي الانتقال من طور الى طور، وبدء البناء على أساس الواقع الجديد، ونظام الأشياء الجديد، والمجتمع الجديد، والعقد الاجتماعي الجديد.. ويا خبر بفلوس بكرة يبقى ببلاش!!

هذا المسار التطبيعي من الممكن أن تقف في وجهه ثلاثة عقبات رئيسية هي: الوعي الديني، والتضامن الاجتماعي، والاستقلالية الاقتصادية.. وهذا ما يفسر كل ذلك الحرص على التعامل مع هذه العوائق واحتوائها وضربها منذ اللحظة الأولى!!

الوعي الديني تم ضربه من خلال تعطيل العبادات وإغلاق دور العبادة (حتى قبل إغلاق الأسواق الأشد خطرا) كنوع من نزع قداسة المقدّس وتهوين فكره تجاوزه في وجدان الناس، وتأكيد فكرة أنّ التديّن خيار شخصي وممارسة فردية تؤديها لوحدك في البيت.. وليس حالة من "الوعي الجمعي" و"الوجدان الجمعي" الذي يمثّل المرجعية القيمية الأساسية للناس والمجتمع!!

والتضامن الاجتماعي تم ضربه من خلال مفهوم "التباعد الاجتماعي" المُغرِض، و"شيطنة" الآخرين الذين يجب أن تتعامل معهم من الآن فصاعدا كموبوئين ومصدرا للتهديد والخطر!!

والاستقلالية الاقتصادية تم ضربها من خلال الحظر، واستنزاف مدخرات الأفراد والأسر ومقدّرات الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة!!

بعد كل هذا الكلام سينفد صبر أحدهم ويقول بنزق وضيق صدر: حسنا، فهمنا كل هذا الكلام، متى سنعود الى الحياة "الطبيعية"؟! وهو يقصد بكلمة "طبيعية" هنا رفع الحظر فقط بمعزل عن كل ما قد قيل!!

الإجابة ببساطة، سيُرفع الحظر بعد استكمال إرساء البنية التحتية للأمر الواقع الجديد، والتي تتمثل في شقّها المادي والفني واللوجستي بـ:

- استكمال البنية التحتية للتحوّل الرقمي.

- إنجاح تجربة التعلّم عن بعد "خاوة" من خلال استكمال الطلاب للفصل الدراسي الثاني ولو بصيغة ناجح راسب من دون تحصيل وتقييم حقيقيين.

- نجاح واستقرارالخدمات والمنصّات الالكترونية التي تم إطلاقها وتعوّد الناس على استخدامها.

- نشر سلوك "الدفع الإلكتروني" كممارسة اعتيادية يومية على أكبر نطاق ممكن، ولمختلف الأغراض والاستخدامات.

- تجفيف المالية العامة للدولة وأموال الضمان الاجتماعي الى أقصى درجة ممكنة.

- وأخيرا، وهو الأخطر والإكثر إلحاحا، استكمال استدماج الفئات التي ما تزال خارج "المنظومة" وتتمتع باستقلاليتها النسبية: عمّال المياومة وصغار الكسبة من خلال حصرهم وتسجيل بياناتهم بذريعة تقديم المعونة لهم. والشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال إيقاعها في براثن الدَين والقروض "التشجيعية" بحجة مساعدتها على الصمود خلال فترة الأزمة.

وأخيرا يبقى الرهان الأساسي لنجاح أي عملية جوهرية، حثيثة، واسعة النطاق.. "للتطبيع" و"التوطين" قائما على عاملين حاسمين:

- قدرة الناس على التكيّف والتأقلم (وللأسف قدرة الناس مدهشة وعجيبه بهذا الخصوص).

- أنانية الناس (ولو بذريعة الخوف وتحرّي السلامة)، وتفضيلهم حياة الاستكانة والراحة، وتسبيقهم مصلحتهم الشخصية وخلاصهم الشخصي على أي اعتبار آخر (والمؤسف أنّ أنانية الناس تفوق حتى قدرتهم على التكيّف والتأقلم)!!
 
تابعو الأردن 24 على google news