jo24_banner
jo24_banner

الكورونا ودكان "أبو محمد" و"الطرنيب" والنهب المُمنهَج!!

كمال ميرزا
جو 24 :
كتب كمال ميرزا - 


عندما يتقيّأ علينا الإعلام تقارير وريبورتاجات تتحدث عن "خسائر" بالملايين والمليارات والتريليونات يتعرض لها الاقتصاد العالمي وعالم المال والأعمال والاستثمار جرّاء فيروس الكورونا.. هل تعلم ماذا تعني كلمة "خسائر" هنا؟!!

هذه "الخسائر" الوهمية والمزيفة هي من أحقر الكذبات التي تمارس على الناس من أجل تسويغ السلب والنهب المُمنهج والمقونن الذي يتعرضون له ليل نهار بسيف السلطة والقانون!!

لتقريب الفكرة فلنضرب أولا مثالا بسيطا و"تقليديا" للاقتصاد على طريقة "أبو محمد" التي نعرفها جميعنا ونمارسها بالسليقة:

لو أنّ لدى "أبو محمد" بقالة صغيرة في حارة، وهذ البقالة الصغيرة في نهاية السنة حققت إيرادا صافيا بعد خصم كل الكلف والنفقات "1000" دينار، سنقول ببساطة أن الدكانة قد ربحت "1000" دينار.

طبعا هذه الـ "1000" دينار غير مصروف "أبو محمد" هو وأسرته وتكاليف معيشتهم من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وتعليم وصحة وتنقل.. الخ التي تم تغطيتها طوال السنة، واحتسابها ضمن الكلف والنفقات، وتعتبر جميعها نوعا من الربح غير المباشر بكون "أبو محمد" قد أنفقها على معيشته و"رفاهه" هو وأسرته!!

بل إنّ "الإيراد الثابت" و"تغطية تكاليف المعيشة" هما الربح الحقيقي بالنسبة لـ "أبو محمد" وتفكيره الاقتصادي، قبل الحديث عن الربح الصافي الذي سيتحقق آخر كل سنة!!

سيتنطح البعض ويقول: ماذا عن رأس المال الذي دفعه "أبو محمد"، ولنقل أنّ تأسيس الدكانة قد كلّفه "10000" دينار.

وفقا لحسابات "أبو محمد" فإنّه يحتاج إلى عشر سنوات لاسترداد رأس ماله، وبعدها يصبح أيّ قرش إضافي يدخل إليه من وراء دكانه هو من قبيل "الثروة" الخالصة وليس مجرد تحقيق ربح وتغطية كلف ونفقات!!

كما أنّ الدكانة نفسها ستصبح نوعا من "الأصول" الثابتة التي تمنح "أبو محمد" آمانا معيشيا واقتصاديا "هيكليا" ويستطيع عند الضرورة "تكييشها" واستخلاص "فائض القيمة" منها في أي لحظة!!

هذا المنطق في الحساب أكثر مَن يعرفه هم أولئك الذين يشترون سيارات تاكسي أو سرفيس بكون العمر الافتراضي لهذه السيارات محدود حسب اشتراطات الترخيص:

عمر السيارة سبع سنوات قبل أن تضطر لشطبها وتجديدها، أول ثلاث سنوات ونصف أنت تشتغل للسيارة من أجل تغطية كلفتها (أي استرداد رأس مالك)..

وفي السنوات الثلاث ونصف التالية أنت تشتغل لنفسك..

ومرّة أخرى، يبقى الربح "الحقيقي" لمالك السيارة هو الإيراد الثابت طوال هذه المدة، والذي يغطي تكاليف معيشته هو وعائلته يوما بيوم وشهرا بشهر من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وتعليم وصحة وتنقل.. الخ!!

بالعودة إلى جوهر مثالنا، قلنا أنّ "أبو محمد" قد حقق نهاية السنة الأولى ربحا صافيا مقداره "1000" دينار، ماذا لو أتينا السنة التالية ووجدنا أن صافي إيراد الدكانة نهاية السنة بعد خصم كافة الكلف والنفقات قد كان "800" دينار وليس "1000".. بماذا نصف "أبو محمد" ودكانه في هذه الحالة؟!

وفق منطق الاقتصاد البسيط "والحقيقي"الذي يعرفه "أبو محمد" ونعرفه نحن وتعرفه جدّاتنا ويعرفه الأطفال الصغار الذين يلعبون في الشارع.. فإنّ "أبو محمد" ما يزال رابحا، لقد حقق ربحا صافيا مقداره "800" دينار، و"دكانته" ما تزال "استثمارا" ناجحا ومجديا قادر على تحقيق الدخل الشهري والربح الصافي نهاية السنة لصاحبها!!

ولكن هل ينطبق هذا الكلام على الاقتصاد الرأسمالي وما يسمّى "علم الاقتصاد"؟!

الإجابة لا.. وهنا مكمن الخلل والخديعة الكبرى!!

بحسب المنطق الرأسمالي فإن دكانة "أبو محمد" قد مُنيت بـ "خسارة" مقدارها "200" دينار، أي أنّ الدكانة "استثمار" خاسر، أو فلنقل "متعثر" في الوقت الحالي، مع أنّها فعليا قد حققت ربحا سنويا صافيا مقداره "800" دينار!!

بل إنّ الخسارة هي أكبر من "200" دينار فقط، فوفق مبادئ الاقتصاد الرأسمالي، أي استثمار مطالب بأن يحافظ على "نمو" سنوي خطّي مقداره (2%) على الأقل!!

لو طبقنا هذا المبدأ على دكان "أبو محمد"، إذا كان الربح في السنة الأولى "1000" دينار، فإن الحد الأدنى المتوقع لصافي ربح السنة الثانية هو "1020" دينار، وعليه تكون خسارة "أبو محمد" في السنة الثانية هي "220" دينارا وليس "200" دينار فقط!!

تخيّل حجم المبالغ التي نتحدث عنها هنا في حالة استثمارات بملايين ومليارات الدنانير!!

بل إنّ خسارة "أبو محمد" وفق المنطق الرأسمالي لا تتوقف عند الـ "220" دينار، فهذا التراجع في الأرباح الذي يصنّف كـ "خسارة" سيؤدي إلى انخفاض السعر السوقي لأسهم دكانة "أبو محمد" في البورصة، وتخفيض تصنيفه الائتماني لدى البنوك، وبالتالي رفع سقف الضمانات وأسعار الفائدة على القروض التي يمكن أن يستدينها "أبو محمد" (غالبا بضمان دكّانه) لدفع عجلة الدكان وتعويض "خسائرها"، وأعباء الدَين ستزيد من الكلف وصعوبة تحقيق صافي الربح التصاعدي المطلوب، وربما دخول الدكانة مرحلة "الإعسار"، ومن ثم المزيد من الانخفاض في سعر السوق لأسهم الدكانة في البورصة!!

وفي حال نزلت القيمة السوقية لأسهم دكانة "أبو محمد" عن نقطة معينة (وهي نقطة افتراضية) فإنّ دكانة "أبو محمد" ستصبح بحكم الاستثمار الفاشل والمنهار، وسيعلن إفلاسها، وسيصادرها "الديينة"، أو ستباع في "المزاد العلني"، أو "سيستحوذ" عليها مستثمر آخر يتمتع بـ "الملاءة المالية".. مع أنّ، وهنا بيت القصيد، "أبو محمد" ما يزال موجودا (في حال لم يكن قد أصيب بجلطة بعد)، والدكانة موجودة، وبضائعها وديكوراتها موجودة، وقد حققت ربحا صافيا بحساب "القرايا" مقداره "800" دينار سنويا!!

خلاصة الكلام، عندما يتحدث الأكاديميون والمحللون وخبراء الاقتصاد والإعلاميون عن خسائر مقدارها ملايين ومليارات وترليونات سيتكبدها الاقتصاد العالمي جرّاء فيروس كورونا (حساب السرايا).. فانّهم لا يتحدثون عن خسائر حقيقية، هم يتحدثون عن خسائر افتراضية، يتحدثون عن الأرباح على الورق التي لم يحققها أصحابها فعليا على أرض الواقع!!

وعندما يتحدث السياسيون عن تعويض ودعم الاقتصاد والشركات والقطاع الخاص، هم لا يتحدثون عن تعويض خسائر فعلية دفعوها من جيوبهم وحساباتهم الخاصة، بل يتحدثون عن تعويض أرباح وهوامش ربح افتراضية لم يحققها هؤلاء!!

لا يكفي أنّ الاقتصاد الرأسمالي قائم على "الربا" بالمعنى الحرفي للكلمة، وأكل أموال الناس بالباطل أضعافا مضاعفة وذلك من خلال ما يسمّى "دورة رأس المال" ونموذج الأعمال المنبثق عنها القائم على "الاقتراض" والتمويل"!!

ولا يكفي أنّ البورصات، صمام أمان النظام الرأسمالي للاستمرار من دون أن يستطيع أحد الخروج على المنظومة والبحث عن بدائل أخرى، هي "قمار" بالمعنى الحرفي للكلمة!!

ولا يكفي أنّ ما يسمّى "التصنيف الائتماني" للأفراد والشركات والدول هي عملية "ابتزاز" بالمعنى الحرفي للكلمة!!

الشعوب الآن مطالبة بتغطية الأرباح "المستقبلية" لرأس المال، الأرباح التي لم يحققها، الأرباح التي ما تزال طي الغيب، الأرباح التي لم يقدم مقابلها رأس المال لا بضائع ولا خدمات ولا كلف ولا رواتب ولا أجور ولا أي نوع من أنواع المزايا الوظيفية والتأمينات الاجتماعية!!

أرباح ببلاش!!

هناك "حديث قدسي" يقول فيه ربّ العزّة مخاطبا الناس: "يا ابن آدم لا تطالبني برزق غد كما لم أطالبك بعمل غد.."!!

ولكن الربّ الرأسمالي هذه الأيام هو الذي يطالبك بالرزق (من خلال نهب فائض قيمة عملك)، رزق أمس من خلال كلّ ما تملكه وتدّخره، ورزق اليوم من خلال مستحقاتك من أجور ورواتب وحقوق وظيفية وتأمينات اجتماعية، ورزق الغد من خلال ابتزازك في أموال الضمان الاجتماعي والتقاعد الذي يمكن أن تحصل عليه بعد عشرة وعشرين وثلاثين سنة!!

سيخرج علينا أحدهم ويقول بكلّ تنطّع أنّ مثال دكانة "أبو محمد" هو تبسيط مخلّ، وأنّ الاقتصاد وعلم الاقتصاد هما مسألة أعقد من ذلك كثيرا، ويبدأ بلوك المصطلحات والمفاهيم الاقتصادية المتقعرة مثل "التضخم" و"الاهتلاك" و"الانتعاش" و"الكساد" و"الناتج القومي الإجمالي" و"مؤشرات الاقتصاد الكلي".. الخ، وغالبا بلغة "عربيزي" ملووقة!!

أولا، وهذا كلام علمي، ما يسمّى علم الاقتصاد يصنّف ضمن "العلوم الزائفة"، بمعنى هو علم فقط لأنّنا جميعا متّفقون على أنّه علم، وليس لأنّه تعبير عن حقائق موضوعية إمبريقية مرتبطة بنظام الكون وسننه.

وثانيا، ما يسمّى قوانين الاقتصاد ليست قوانين بالمعني العلمي للكلمة مثل قوانين الفيزياء والكيمياء والأحياء.. الخ، بل هي قوانين مستقاة من مقولات وافتراضات ومبادئ وضعها أشخاص بعينهم وتم تبنيها واعتمادها باعتبارها علما وأساسا لهذه الظاهرة الاجتماعية التي نسميها "اقتصاد"!!

بكلمات أخرى، الأمر أشبه بلعبة "طرنيب"، قوانين الطرنيب حقيقية وسارية وصحيحة ومنتجة لآثارها لأنّ جميع اللاعبين متفقون عليها، ليس لأنّ الكون قد خُلق وقوانين "الطرنيب" هي جزء من نظام الطبيعة!!

وأيّ قانون للطرنيب هو قانون مغلوط أو فاسد إذا نظرنا له من منظور قوانين "التركس" أو "البناكل" مثلا!!

بل تتوقف قوانين "الطرنيب" عن أن تكون قوانينا في اللحظة التي يقرر فيها اللاعبون التوقف عن اللعب أو لعب لعبة جديدة!!

باختصار، كل هؤلاء الساسة والمحللين والخبراء والأكاديميين الذين يحذّرون من مخاطر الكورونا على الاقتصاد وعلى مستقبل عملية الإنتاج وعلى أمان الناس المعاشي ومستقبل البشرية هم "يلعبون" بنا و"يطرنبون" علينا!!

وعندما تسمع أحدهم يتكلم في المرّة التالية فاعلم إنّه إمّا "وغد" و"متآمر" يعي تماما ما يقول.. أو "حمار محشي ببنطلون" لا يعي ما يقول ويتحدث من وحي "كرتونة" يحملها من دون فهم حقيقي لجوهر "العلم" الذي درسه!!

بالنسبة لبعض الإعلاميين الاقتصاديين على وجه الخصوص، غالبيتهم ينطبق عليهم المثل "تعلّم البيطرة بحمير النَوَر" ويفضّل أن تعاملهم على هذا الأساس!!
 
تابعو الأردن 24 على google news