jo24_banner
jo24_banner

الكورونا.. وكلمة "ما بعد" الصغيرة!!

كمال ميرزا
جو 24 :



ما بعد كورونا ليس كما قبل كورونا..
ما بعد كورونا ليس كما قبل كورونا..
ما بعد كورونا ليس كما قبل كورونا..

منذ اليوم الأول، وقبل حتى أن تتبيّن أبعاد هذه التي يسمّونها "الجائحة"، أو أين يُراد الذهاب بها، حرص الخطاب الرسمي والإعلام على تكريس هذه "الثيمة":

ما بعد كورونا ليس كما قبل كورونا..

وما يزال الخطاب الرسمي والإعلام يمارسان "الزن"، ويصران على إعادة وتكرار هذه الثيمة حتى ترسّخت في وجدان الناس وأصبحت كأنّها "أمرا مقضيا"!

حتى مشيئة الله ووعوده لا تتخذ في وجدان الناس مثل هذا اليقين؟!

السؤال البسيط الذي لا يطرحه أحد هو: لماذا؟!

لماذا ينبغي أن يكون عالم ما بعد الكورونا غير عالم ما قبل الكورونا؟!

من أين أتت هذه الضرورة والحتميّة؟!

وكأنّ البشر، من أكبر حكومة إلى أصغر فرد، "قاعدين على نكشة"، وينتظرون فقط أيّ حجة أو ذريعة ليتنصلوا من كلّ مسؤولية والتزام سابقين!!

ومن الآن فصاعدا سيُقدم البشر، من أكبر حكومة إلى أصغر فرد، على اقتراف شتّى أنواع الموبقات والحجة جاهزة سلفا: زمن أوّل حوّل، إنّه زمن ما بعد الكورونا يا عزيزي!!

بل إنّهم شرعوا فعليّا في ممارسة سفالاتهم، حتى قبل أن تنقضي "الجائحة" وندخل فعليا في مرحلة "ما بعد" الكورونا!!

تنصّل كلّ رئيس من مرؤوسيه، وكلّ ربّ عمل من موظفيه، من أكبر حكومة إلى أصغر فرد، هو مجرد غيض من فيض، أو من قبيل "أوّل الرقص حنجلة"!!

تنصّل الأنظمة من شعوبها، وحلّ مشاكل الفقراء من جيوب الفقراء عبر استنزاف الفتات المتبقّي معهم، وتجريدهم من بقايا المُلكيّات الهزيلة التي ما تزال بحوزتهم، وابتزازهم في لقمة عيشهم، وابتزازهم حتى في أيّ مقدّرات ادّخروها للمستقبل، من أصغر "تحويشة" أخفاها أحدهم تحت مخدته، أو مصاغ صرّته إحداهن في صندوقها، إلى أكبر صندوق للتقاعد أو للضمان الاجتماعي أو صندوق سيادي مسجّل باسم الدولة (أو حتى أكبر شركة نفط في العالم ما تزال إسميّا مسجّلة حتى هذه اللحظة شركة قطاع عام)!!

خروج الناس "المسعور" إلى الشوارع والأسواق بعد أن تم تخفيف قيود الحظر عنهم قليلا هو مجرد "بروفة" صغيرة للمجتمع القادم، وكأنّهم "وحوش" بريّة خُوّفت وجُوّعت قليلا ثم أُطلقت لتتدبر أمر خلاصها الفردي في أرض يباب!!

مرّة أخرى، لماذا ينبغي أن يكون ما بعد كورونا غير ما قبل كورونا؟!

هل ما حدث أمر أشدّ خطورة وأكثر فداحة من أوبئة سابقة اجتاحت العالم؟!

أو من مجاعات شهدها العالم؟

أو من الحربين العالميتين الأولى والثانية، أو ما يوازيهما على المستوى الإقليمي والقُطري؟!

أو من القلاقل والفتن والفوضى التي اجتاحت مناطق بعينها أو دولا بعينها؟!

خلال كل هذه الحوادث والحوارث كانت الثيمة دائما "إعادة الإعمار".. "إعادة الإعمار"..

لماذا هذه المرّة الإصرار على الحديث عن "ما بعد"، ولا أحد يتحدث عن "استعادة" ما كان أو حتى "الحفاظ" على ما تبقّى؟!

هل فيروس انفلونزا بمواصفات صناعية ما تزال الأسئلة الأساسية حول أصله وفصله وحقيقة خطورته وانتشاره معلّقة حتى هذه اللحظة.. هل هو أخطر من جميع الكوارث الإنسانية أعلاه؟!

باستثناء ماكينة "التهويل" الإعلامية المستخدمة حاليا، بماذا تتفوق "جائحة" الكورونا عمّا سبقها؟!

نعيد السؤال مرّة ثالثة:

لماذا ينبغي أن يكون ما بعد كورونا غير ما قبل كورونا؟
ولماذا الإصرار على ثيمة "ما بعد"؟
ولماذا لا يتحدث أحد عن "إعادة" و"استعادة" و"ترميم" و"إصلاح" و"إعمار" ما هو كائن؟!

في كتابه "الحداثة السائلة" يتخذ "زيجمونت باومان" من المقارنة بين رواية "عالم رائع جديد" لـ "ألدوس هكسلي" ورواية "1984" لـ "جورج أورويل" أساسا لمناقشة مصير "الفرد" في زمن السيولة.

الروايتان تصوّران رؤيتان متباينتان لمستقبل العالم في ضوء وعود الحداثة والتقدّم التكنولوجي والرفاه كتبهما صاحبهما في النصف الأول من القرن الماضي.

رواية "هكسلي" ترسم عالم الثراء والإسراف والوفرة والشبع حيث الناس يعيشون عيشة الرغد والمرح الخالية من الهموم (عالم الحلم الأمريكي)..

ورواية "أورويل" ترسم عالما رثّا وفقيرا مدقعا، عالم من العوز والفاقة يعيش فيه الناس بحزن ورعب (عالم الأنظمة الشموليّة)..

يبدو أن عالم "ما بعد" كورونا هو عالم إذابة وتسييل هاتين الرؤيتين في بعضهما البعض!!

هو عالم الفقر والرعب حيث "الأخ الكبير" يراقب كلّ شيء، ويسيطر على كلّ شيء، ويُحصي عليك خطواتك وأنفاسك، ويحدّد لك عدد اللقمات التي يحق لك تناولها، وعدد جرعات الماء التي أنت مخوّل بشربها..

ولكن هذا العالم القاتم والظالم في الواقع الحقيقي يأتي مستترا ومتواريا وراء كل تلك الصور الوردية الزائفة المُخلّقة تخليقا في الواقع الافتراضي، وتلك الوعود الزائفة التي تمنّيك بها الجنة أو "اليوتوبيا" الرقميّة الموعودة، وحيث تحقيقك لذاتك وممارستك لحريتك وإشباعك لرغباتك عبر "الفضاء التواصلي" تنسيك وتغنيك عن تحقيق ذاتك وممارسة حريتك وإشباع احتياجاتك كإنسان حقيقي في العالم الحقيقي!!

الآن، والناس لا يعرفون هل سيكون هناك حظر أم لا الأسبوع التالي، ولا يعرفون هل سيعودون لأعمالهم وحياتهم أم لا الشهر التالي.. هناك مَن يطلق مبادرة لتأهيل مليون مبرمج أردني، وقبلها كانت هناك مبادرة لتأهيل مليون مبرمج عربي؟!

ما هو العمل الذي سيزاوله هؤلاء جميعا؟! ما هو النقص الذي يستجيبون له؟! هل هناك حاجة فعليّة لكلّ هذه الأعداد؟!

على المدى القريب مثل هذه المبادرات هي بمثابة "تكييش" لحالة وخطاب دعائي يساهم في تكريس كذبة "الوعد الرقمي"ّ و"الحتميّة التكنولوجيّة"..

ولكن على المدى البعيد هؤلاء هم شرطة وعساكر العالم القادم، عالم "ما بعد الكورونا"، فهل تعرف شيئا غير الشرطة والجيوش يستدعيان "تجنيد" و"تدريب" و"تعبئة" كل هذه الأعداد الجرّارة؟!

شرطة وعساكر ناعمة بمظهر عصري برّاق تخفي حقيقتهم الشرسة!!

هؤلاء هم شرطة وعساكر "الإنسان ذئب أخيه الإنسان"، ولكن هذه المرّة بـ "كبسة زر" و"لمسة شاشة" داخل سجن "الشبكة"..

بينما مالكو زر الإطفاء الخاص بالشبكة، والمتحكّمون بخوادمها و"سيرفراتها"، يرفلون في نعيم حياتهم الحقيقية في العالم الحقيقي كآلهة متوّجة خارج القيود العنكبوتية للشبكة!!

هل عرفتَ النتائج الخطيرة التي يمكن تترتب على كلمة صغيرة مثل "ما بعد"؟!
 
تابعو الأردن 24 على google news