الكسل والراحة في وزارة الثقافة..!
لا نستطيع حصر المعرفة ضمن حدود ضيقة، كما كنا نفعل في الماضي. إننا نحتاج الآن إلى عدد كبير من ذوي الثقافة العلمية العالية. وأرى أن تكون نقطة البداية، نقطة سياسية، فالمعرفة تمنح الحكومة، أكثر بكثير من حدود الكلمات، التي يتضمنها الدستور العظيم.
فليس من العقل والمصلحة، أن تعنى الدولة بنشر العلم، والإكثار من حملة الشهادات، وتقف عند ذلك دون أن توجه عنايتها، إلى الناحية التطبيقية من العلم، وإذاعة الثقافة العلمية الصناعية، لينشأ جيل جديد، ذو عقلية صناعية، في استطاعته الإنتاج، والابتكار، فنلبس من صناعتنا، ونأكل من تعبنا وعرقنا، وندافع عن كياننا بنتاج عقولنا، لا أن نكون عالة على الأمم، نعيش بجهودهم ،وعقولهم، وصدقاتهم.وهذا هو دور الهيئات التوجيهية، وفي مقدمتها وزارة الثقافة.
لقد ابتلينا في هذه البلاد بالراحة، وكسل العقل، والنفور من التفكير الحر. فكان ذلك من أسباب خمولنا، وضعفنا، ومن عناصر جمودنا، وتخلفنا، وفشلنا في ميادين الحياة . لقد دفعنا سوء التقدير، إلى الارتجال والفوضى في أعمالنا وحركاتنا، وطبعنا بطابع الغموض في تحديد المسؤوليات، والميوعة في احترام النظام والقوانين، وميزنا بالمجاملات، والاعتبارات الخاصة.
ومعروف أن الإصلاح ينزوي في جماعات ثقافية لا حزبية، هذا ما أكدته التجربة الأوروبية، والأمريكية، واليابانية،والهندية، والصينية. فالثقافة العلمية، من أهم العوامل في أحداث التحول الاجتماعي.وقد تبينا في الحراك الشعبي المستمر، سمة القلق والحيرة، الناشئة من اصطدام جيل الشباب، بالنظام الاجتماعي، والاقتصادي القائم. وتقتضي الحاجة الآن، بالازدياد من العلم، ونشر الثقافة العلمية، للتغلب على المشكلات التي تواجه عملية الإصلاح في بلادنا.
فما زال يتحتم علينا أن نسأل عن دور وزارة الثقافة، في التأسيس لوعي جديد، يوافق متطلبات المرحلة، ويساعد في استثمار طاقات الشباب المتحمس للإصلاح السياسي، والتطوير الاجتماعي. فالتقدم يرتبط بالثقافة العلمية، والعلم وحده يقود الإنسان إلى تحسين أحواله وتمكينه من الحياة السعيدة. ويتجلى هذا التقدم في تطور العلوم، وتعليم الناس طرائق التفكير السليم، الذي يمكن أن يكون منظما ثابتا، تقوده رغبة وخطة توجه مجراه إلى غاية معلومة. بيد أنه غالبا ما تخطئ الحكومة في اختيار شخص وزير الثقافة، فلا تفرق بين الثقافة العلمية، والثقافة الإنشائية، التي استغلها بين الأشخاص، وانخدعت بها القيادات العليا، فأولتهم المناصب الرفيعة.
إن ثقافة الشعر، والأدب، والقصة، والرواية،التي تشجعها وزارة الثقافة، لا وجود لها إلا في الذاكرة التعبة،والاهتمام بها، هو مجرد توهم من الذهن، والذين يشجعون مثل هذه المعرفة، إنما هم يرتاحون للفكر الجاهز، وليس عندهم ما يضيفونه. فالشعر عنصر تخريب للحياة،والأدب اضطرابات نفسية، لسنا بحاجة إليه.
فصديقنا معالي الدكتور صلاح جرار، أستاذ الأدب الأندلسي، في الجامعة الأردنية، يتربع الآن على عرش وزارة الثقافة، وقد ظل يباشر الإشراف والإدارة بشكل أو بآخر، ولكنه ظل يعتمد على أناقته، وشخصيته، وميله الخاصة، ورغباته الهادئة. وهو وزير صوفي مؤدب، لا يخطئ أبدا، ولا يرتكب مخالفة صغيرة ولا كبيرة،ولا يتخذ قرارا غير مألوف، ولا اعتقد أن الثقافة تسير خطوة واحدة إلى الأمام، ولو بقي هذا الوزير مئة سنة في وزارته، لأنه في واقع الأمر، موظف ملتزم، وليس عنده إلا الموشحات الأندلسية، التي كانت سببا في انهيار الدولة في الأندلس العربي، ومن سوء حظه، أن التجربة أثبتت عدم فائدة هذا الشعر، الذي خرب الحياة، وبعثر طاقات الشباب، في اتجاه تشجيع الغريزة الجنسية، والصياع بالحب.
فكل الترهات ترجع إلى عرب الأندلس، الذين نقلوا القصص الغرامية الأدبية، ووضعوا الأشعار والأزجال في الحب الخيالي العذري، وجعلوا الحب موضوعاً للأدب، والسياسة،حتى الدين والفقه، لم يسلما منهم، كما فعل ابن حزم في كتابه "طوق الحمامة". يقول المؤرخون، أن الإفرنج، حين أعدو عدتهم، لغزو المسلمين في الأندلس، أرسلوا العيون والجواسيس، لمعرفة حال البلاد والعباد، فعادت إليهم العيون بالأخبار، بأن القوم سكارى ومخمورين، كل رجل، يتأبط فتاة ويقول الشعر ويبكي، حتى الأمير، والأجير، والحمير، فالكل حبيب وحبيبة،..وكان كما قالوا ووصفوا، خرب الشعر، والأدب، والحب، ديارهم.
فليس من مصلحة الشباب، أن يقف على أدب العرب، ويتلمسه مباشرة من الكتب القديمة. فأنا لا أحب مثلاً أن تقع عين فتى، أو فتاة، على الأشعار المذكورة في كتب الأدب، بشأن الغلمان. ومهما أحسنا الاعتقاد في الأثر الذي تتركه قراءة هذه الأشعار، فإننا لا يمكن أن نغض الطرف عما يفعل إيقاع الشعر، في نفس الشباب، من تحسين الرذائل له. وكم من شاب يتغنى بهذه الأشعار، ويمارس الرذائل التي نقول بها. والفسيولوجية الحديثة تقرر أنه لا يرد بالرأس خاطر، ليس له أثر في النفس والخلق.
فهل نتوقع لهذا الوزير، أن يضيف شيئا جديد في الثقافة والتأسيس لوعي جديد؟ وهل تفيد تجربته العلمية في الإصلاح والتطوير الاجتماعي؟ فماذا ينبغي لمثل هؤلاء الأشخاص أن يعرفوا، حتى يتسنى لهم توجيه جهودهم نحو الغاية العامة لوزارتهم، أو لمؤسستهم؟ وماذا يجب أن يعرف الآخرون عن أعمالهم؟ وأي قرارات يجب أن تتخذ؟ ومتى يجب أن تتخذ تلك القرارات؟
إن عامل الزمن مهم جدا . ولربما مضت سنين قبل التوصل إلى نتيجة مقبولة، تفيد الغاية من إنشاء مثل هذه الوزارة، وأثناء تلك المدة، تكون الجهود والنفقات التي بذلت على التجارب الفاشلة، قد ذهبت هباء منثورا. كل هذا بسبب غياب القرار السليم. فهذه الوزارة، تدعم الكتب السهلة التأليف، ولا تعرف في الثقافة، غير هبل الشعر، وحماقة القصص، وشطط الروايات، أما الثقافة العلمية، فليس لها وجود في مخططات الوزارة، بل إن الوزير ، والأمين العام، يعتبرون المسائل العلمية، ليس من اختصاص الوزارة، وحجته أنه أمر غريب، لا تقبله الوزارة. فأي ثقافة تدعمها الوزارة؟ هل تطبع كتب الأدب القديم، أم كتب أصحاب الدكاكين، والناقة والبعير؟أم كتب أدب القرون الوسطى ، التي تتكلم عن السحر والعفاريت، كأنها حقائق ملموسة؟. لماذا تنظر الوزارة إلى السلف كأنهم المثل الأعلى، ويعتمدون في معارفهم على رواية الكتب القديمة؟ ويفرح المسئولون في الوزارة، لقصة الهدهد مع سليمان، وقصة ليلى والذئب، ويضعونها جنباً إلى جنب مع كتب المشاهدة العلمية الدقيقة.
وهكذا كان العلم في ناحية، ومنهج العلم في ناحية أخرى ، ومن هنا تضيع معالم الطريق، أمام أبصارنا، حتى لترانا نتجه إلى وراء، ونظن أننا نسير إلى أمام .
إن مقالة واحدة مترجمة، عن مجلة علمية أوروبية، أفيد للقراء فائدة مادية، من قراءة ألف صفحة من هذه الكتب التراثية، وأفيد في عملية الإصلاح والتطوير، من كل الكتب التي دعمتها وزارة الثقافة منذ نشأتها . فالتفكير العلمي، نافع جدا في العلاقات بين الناس . إن الغربيين اخذوا بأساليب البحث العلمي، زمنا، فقويت عندهم ملكة المشاهدة، واتزنت عقول كثيرين منهم، وترفعت عن الأوهام، والأخذ بالظواهر. وكان لهذا اثر كبير في حياتهم السياسية والاجتماعية .إن كثيرين في بلادنا، ما يزالون يأخذون بظاهر الأقوال. ومما يدل على ضعف الروح العلمية في الناس، تصديقهم بمفتريات وادعاءات لا تنطبق على الواقع، ولا يصدقها العقل .
فهذا الانفصام بين العلم من جهة، ومنهجه من جهة أخرى، تولد لنا منه ضروب من الأورام الخبيثة، في حياتنا العقلية أو قل حياتنا اللاعقلية، فكان لنا ما كان من بطء شديد في حركة التقدم، مع حضارة عصرنا في ركضها السريع . إن قرار الوزارة الاكتفاء فقط،بدعم نشر كتب الأدب والتراث، دون كل أشكال الثقافة العلمية، خطر كبير، يتحمل مسؤوليته وزير الثقافة نفسه.
إننا في حاجة إلى شيء جديد، رجال يعتنقون التجديد بما يفترضه من مسؤولية ومغامرة وما عليه من نتائج. إن العصر الحاضر لا يسأل : هل يجب أن يكون هناك تجديد أو لا يكون . لقد فرغ من ذلك . إنه يسأل عن هدف التجديد إلى أي مدى يمكن الحصول على ذلك الهدف، ومقدار المسؤولية المتربة عليه . إنه يتطلب رجالا يؤمنون بالمسؤولية، ويتحملونها أكثر مما ينشدون النجاح.
إن المفاهيم الرجعية، التي تتشكل لحملة الشهادات في الدراسات الأدبية القديمة، تدفعهم إلى كراهة الروح العصري في الثقافة والسياسة والاجتماع والعقيدة، وهذا بدوره يشكل عدوا لعرقلة مجتمعنا عن التقدم خطوة إلى الأمام. إن الثقافة أو الفكر هو الشكل الأول في محاولة حل التناقضات في المجتمع. فكم كلمة ألقاها وزير الثقافة للتأكيد على أن الإصلاح يبدأ بالعقل؟ وكم ندوة عقدت الوزارة بهذا الشأن؟ وكم كتابا، أو برنامجا وثائقيا أعدته ليبث للشباب؟ والملاحظ الآن، أن وزارة الثقافة أكتفت بدور المتفرج، ولم يحاول وزير الثقافة أن يوجه كلمة واحدة عبر وسائل الإعلام، أو يوجه مديريات الثقافة في المحافظات للقيام بواجبها، والمشاركة في عملية توجيه الشباب ،وتعديل انطلاقاتهم الحماسية لتكون في الاتجاه الصحيح.
ومما يؤسف له، أن القيادات الحالية، هي نتاج مرحلة الانغلاق والتعتيم،التي كانت تمنع إنشاء الجرائد والمجلات،وترى مصباح الخطر في كل شخص متنور،يسعى إلى المعرفة والتحرر من قيود الوهم والخرافات وأساطير التراث . فهي قيادات غير متنورة ،وتتعامل مع ثوابت جامدة، ليس لها قدر أو نصيب من الصواب. وقد أثبتت التجربة، انتهاء مدة صلاحيتها . فليس من الشرف لهذا الوطن، أن تكون له وزارة كالموتى في القبور، كتب عليها الصمت، والسكون إلى الأبد.
لهذا يجب أن تلغى وزارة الثقافة، وتلغى معها دائرة المطبوعات والنشر، هذه الدائرة التي ليس لها شبيه في أمة ديمقراطية.