حُلم الملك بين أيادي الهواة
خرج إلينا رئيس المجلس الاقتصادي والإجتماعي، الدكتور جواد العناني بمقالة في جريدة الغد بعنوان "المدن الصناعية في المحافظات" يغمز فيها إلى الإقتراح الذي تقدم فيه وزير الصناعة والتجارة إلى جلالة الملك في الحلقة التشاورية التي جمعت العديد من المنتدين لمناقشة التنمية في المحافظات والقاضي بإقامة مدينة صناعية في كل محافظة، بحيث أختتم فيها معالي رئيس المجلس مقالته بجملة: أما بناء مدن صناعية بالطريقة التي جربناها فهو حرث في الماء.
تناقض واضح بين شخصين يرأسان أعلى هياكل تنظيمية إقتصادية في المملكة، ولعَمري أني أشفق على جلالته للحيرة التي يضعه فيها جليسوه عند نقاش خيارات تنموية إستراتيجية مصيرية.
لقد حاول جلالة الملك أن يُحدث إختراق Break Through في موضوع تنمية المحافظات، وقد أقحم نفسه بالتفاصيل التي هي من صميم عمل الحكومات التي فشلت الواحدة تلو الأخرى في تنفيذ رؤيته لدرجة دعته أن يجتمع تارة بالمحافظين، وهم حكام إداريين يأتمرون بتوجيهات وزير الداخلية ضمن أي حكومة لتحريك همتهم في الإطلاع بالدور التنموي المرجو منهم، وتارة أخرى بالصناعيين.
كما وافق جلالة الملك على العديد من الإقتراحات بهدف إحداث تقدم حقيقي في مجال تنمية المحافظات والبلديات. ومن الأمثلة على ذلك إنشاء صندوق الملك عبد الله الثاني للتنمية الذي يرأسه عمر الرزاز، وصندوق تنمية المحافظات الذي يشرف عليه يعرب القضاة، الرئيس التنفيذي لمؤسسة تطوير المشاريع الاقتصادية ومشاريع مؤسسة نهر الأردن.
ولم تقف المحاولات عند هذا الحد، فقد إستمع جلالته إلى محاضرات عن اللامركزية وعن الأمل المعقود عليها لإحداث التنمية لدرجة انه وافق على إعادة هيكلة النظام الإداري بالمملكة فيما يُعرف بمشروع الأقاليم، الذي أجُهض في مَهده. ولا ننسى منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة التي تخلت فيها الدولة عن موجوداتها مقابل أن تصبح العقبة رافعة تنموية للوطن، فخسرت الخزينة ما كان يدخلها من أموال، لا بل تحملت شروط جزائية من جراء إتفاقيات مجحفة، ولعلنا نسمع من المسؤولين جوباً على سؤال لطالما تكرر، وما زالت الحكومة تعطينا الأذن الطرشاء: كم تدفع الحكومة من المال مقابل إستئجار أراض ميناء العقبة التي آلت ملكيتها لشركة المعبر الدولية، سمعنا أن المبلغ هو نصف مليون دينار باليوم ... نعم باليوم لأن الأجرة المحددة بالإتفاقية تبلغ 200 مليون دينار بالسنة، صححونا إن كنا مخطئين.
نعم، إنها كذلك ... من كل قطر أغنية، فهذا يدفع بإتجاه اللامركزية والآخر بإتجاه دعم المشاريع المتوسطة والصغيرة، جهود تحترم، ولكنها قاصرة في ظل إنعدام التخطيط الإستراتيجي الذي يُزيل التناقض إن وجد، ويضغط بنفس الإتجاه لتحقيق التنمية الحقيقية في إطار إستراتيجية عمرانية وطنية شاملة تدرس البدائل وتختار البديل الأفضل مثل مراكز النمو في بعض البلديات ومحاور للتنمية الرابطة بينهما، والذي قد يكون الأنسب لدولة بحجم وإمكانات الأردن.
وبالعودة إلى مقال رئيس المجلس الاقتصادي والإجتماعي، وبالأخص في موضوع المدن الصناعية الذي أستطيع أن أدعي أني أحد المختصين القلائل فيه بالمملكة الأردنية الهاشمية، وذلك لأني مُخطط حضري ساهم في تخطيط توسعة مدينة الحسن الصناعية بالرمثا، ومُصمم أكبر مدينة صناعية في الأردن، وهي مدينة معان الصناعية، ولأني وبعد خمسة عشر عاما من العمل الفعلي في هذا المجال توجهت إلى النمسا للإختصاص في مجال التخطيط المكاني للمدن الصناعية وكان عنوان أطروحتي: أثر المدن الصناعية على التنمية الإقليمية والحضرية.
نعم، أقولها مرة أخرى بأني مؤهل للحديث في هذا الموضوع وكنت قد أرسلت نسخة من كتابي المتخصص المنشور باللغة الإنجليزية بعنوان Impact of Industrial Parks on Urban and Regional Development, A Case Study of Jordan إلى الديوان الملكي والى كافة الوزارات والمؤسسات المعنية بهذا الأمر، ظناً مني بأن هناك من يقرأ.
لقد طرحت في كتابي: دور المدن الصناعية في التنمية المحلية، الذي طورت فيه بإشراف من معهد المالية وسياسات البنية التحتية بجامعة فينا التقنية بالنمسا Austria نظام يستند إلى معادلة حسابية لإختيار مواقع المدن الصناعية وفقا للكثافة السكانية والتي يفصل بينهما معامل المسافة. ولم اكتفي بالدراسة النظرية، فقد حصلت على منحة من الإتحاد الأوروبي لأتمتة هذا النظام المطور فأصبح بالإمكان فتح النظام على شاشة الكمبيوتر وما على صاحب القرار إلا أن ينقر على الشاشة حسب المكان المطلوب تحليله (مادبا مثلا) فتجد النظام يعطيه عدد العمالة الصناعية الراغبة في العمل في هذه المنطقة اعتمادا على مدخلات مبرمجة سابقاً، فمن الممكن أن يحدد صانع السياسات طبيعة التنمية المطلوبة وفقاً للميزة التخصصية لكل منطقة.
إن المثال الذي أوردته يا معالي الدكتور المحترم بإقامة صناعات زجاجية في مدينة معان هو مقبول من الناحية النظرية، وهو ما تم تطبيقه بالفعل بالمخطط الشمولي لمدينة معان الصناعية، ولكنك نسيت أن طبيعة أهالي معان لا تتماهى مع العمل الصناعي، وان الدولة لم تفعل شيئاً بهذا الخصوص، لا بل عملت على العكس تماماً حيث أصبحت جامعتها موطننا للعنف الجامعي بإمتداد عشائري، وأخضعت الحكومة المنطقة لقانون المناطق التنموية والتي عينت شركة حكومية كمطور لأربعة محاور تستثني ثلاثة منها (الروضة الصناعية والمجتمع السكني وواحة الحجاج) بلدية معان، فخلقت التناقض القاتل، فأي معنى للتنمية ينفصل عن أهل المنطقة الساكنين ضمن حدود بلدية معان.
من المعلوم للمحترفين أن المناطق الصناعية هي تجمع لمنشآت اقتصادية كبيرة تشّغل عددا كبيراً من القوى العاملة، ولذلك فإن المدن الصناعية Industrial Parks/ Estates تلعب دورا هاما في تشكيل النسيج الحضري Urban Fabric في محيط وجودها، وبالتالي الإستيطان البشري المرتبط بالعمل. وبما أن التأثير المتوقع لهذا النوع من المنشآت يتجاوز في أغلب الأحيان حدود المدينة الصناعية ليمتد إلى شبكة المواصلات والبنية التحتية والى التكوين العمراني المجاور، فإن الإختيار المكاني لهذا النوع من المنشآت يتطلب جهدا تخطيطيا مميزا يأخذ في الحسبان مجموعة من المُدخلات للتوصل إلى أفضل الحلول التخطيطية. والسؤال بعد مرور 15 عاما على إنشاء مدينة معان الصناعية، هل تحققت مقولة معالي الدكتور حاتم الحلواني في حضرة صاحب الجلالة، جميع المدن الصناعية مشغولة بالكامل، بينما المشغول من مدينة معان الصناعية لا يتجاوز 5% من المرحلة الأولى، و 10 % من مدينة الكرك الصناعية. الآ يعتبر هذا تدليساً يا معالي الوزير أو على الأقل لي لعنق الحقيقة وتضليل للملك.
وفي الختام، ما البديل الذي بحوزة رئيس المجلس الاقتصادي إذا ما كان كل ما أنجزناه في مجال المُدن الصناعية هو حرث بالماء، راجين أن تهمس بإذن زميلك معالي وزير الصناعة والتجارة بالبديل الذي لديك والذي تتقاضي عليه راتباً محترماً من دافعي الضرائب، وقد مضى أكثر من عامين على تأسيس المجلس الموقر، وهل تضّمن التقرير الصادر عن المجلس في العام 2012 غير الكلام المكرر أحياناً الوارد في الفصل الخامس: القطاع الصناعي، والمتاقض أحياناً أخرى، فلا الأردن (عاني من الهاوية المالية Fiscal Cliff ) حسب تعبير التقرير في الصفحة 398 منه، لأنه مُصطلح يحدد الهاوية وليس ما قبلها إلا ظواهر، ولا أوردتم بدائل لكي لا نظل نحرث بالماء، فبحرنا ميت، وخليجنا عقبة ومسئولينا هواة لا محترفين.
* رئيس المنتدى الأردني للتخطيط