jo24_banner
jo24_banner

نصوص حنظلة.. الى ناجي العلي

نصوص حنظلة.. الى ناجي العلي
جو 24 : إلى ناجي العلي

-1-
هذي مظلوميةُ حنظلةَ،
وريثِ الأشجارِ
وأسطورةِ ناصرةِ الشهداء.
ناجي الكنعانيُّ المخلوعُ
من الجنّات إلى الظمأ الدهريّ،
كأنَّ به خيطاً نبويّاً يجري
في دمه الحُرّ من الزهراء.
هو الذهبيّ المذبوحُ من الأخوة والأعداء.
وحنظلةُ العتمةَ زاحمها
بأصابعهِ الناريةِ،
فتثورُ كوابيسُ الثورة،
من نجمتهِ،
ويجَّنُّ الثوّارُ الأمراء.
ويشرب سيّدهُم كأسَ اليأسِ
وتأمرهُ "سالومي" أنْ يقطعَ رأسَ المبعوثِ،
لترقصَ حول جدائله المائيةِ،
في الأنحاء.
ويكشفُ موتُ اللاجيِء،
في لندن،
أنَّ الثورةَ من أسماء الظُلمةِ
حين تضيق على الإيحاء.
ولو أنَّ فلسطينَ تصيرُ على شكلِ الإنسانِ
لكانت حنظلةَ المصبوبَ حليباً
في الأثداء.
نحتاجكَ يا ناجي الآن،
هنا، بالضبطِ هنا،
في الأرضِ المخفوقةِ بالطَوْطَمِ
والريحِ السوداء،
وفوق شقائقها المهروسةِ،
من خطوات العسكر،
وهي تَخبُّ لقمعِ لهيبِ الحبق،
وموقدة الأحياء،
وتعتقلُ جنازاتِ الشغفِ الطائرِ
فوقَ الأكتافِ الأعلى
من غيم العلياء.
نحتاجك لتَضمَّ الدوريَّ الزائغ
من دولاب الضّديّن،
الكارِهِ نايَ الرعيان
ونرجسَ شهوتنا البيضاء.
نحتاجك لترى كيف تحوّلت الكلماتُ
من الجوريّ إلى التبريرِ،
وكيف قَبِلنا أن تُصبح هذي الأرملةُ العصماءُ
فلسطينُ مُجَزّأةً؛
هذي دولتُنَا القادمةُ،
إذا شاءَ العاَلمُ !
- والعالمُ سيّدةٌ عمياء-
وتلك لهم من رأس الثلجِ إلى القدمِ الرمليّة!
مَنْ يقبلُ هذي القسمةَ
غيرُ التجّارِ
وبعضُ أحبّتنا الشعراء؟
يا ناجي !
اللحظةُ كالنار المجنونةِ
تأكل قُدسَ الله وعكا
وبُراقَ المعراجِ
وموجةَ يافا والعذراءَ،
ونخلَتها الباقيةَ
وليمونةَ غزةَ،
وقناديلَ العنب المنحورِ،
ورمّانَ السّهلِ الثاكلِ،
واللوزاتِ على التلّ المحروقِ،
وبيّاراتِ الزعترِ والحنّاء.
ورضينا يا ناجي أن ننجوَ بالذلّ،
وأن نرفعَ رمزين على الشبرِ الممنوحِ،
فضاق بمَنْ فيه،
وحُوصرنا قلباً وثياباً،
وصرخنا من زنزانةِ هذا الصُّلح الوهميّ،
فمَنْ أدخلنا في السّرِ المفضوحِ،
ومَنْ أطبق فوق الشفتين الخَرَسَ،
ومَنْ أعطى الشرعيةَ للأشباحِ الدمويةِ؟
الجاني يا ناجي الأهلُ،
وأعمامُ الصمتِ،
ودُنيا القَتْلِ المأخوذةُ بالعنقاء.
فَمات الأرغولُ المسحورُ
ومات الثوبُ
وليلُ السامرِ
والسَّقّاء.



.. ويومَ العيد، وكان ربيعاً في الأرجاء،
رأيتكَ في الميدانِ تمورُ،
وساحةِ تحرير البسطاء،
رأيتُكَ ترفعُ رَسْمَ الشمسِ
وتَعْدو بالفَرَسِ الشقراء.

-2 -

هذي غزلانُ النار البريّةِ
ترعى في قلبكَ،
فافتحْ قمصانَ التوتِ،
ولا تغلقْ أبوابَ النسيان،
وَدَعْها في الجمرِ،
لتأخذَ فُخارةَ صدرِكَ،
وتَصُبَّ على الوهجِ الزيتَ لكي
تتأجّجَ ألْسِنةُ النيرانْ.
وتمحوَ ما انحفَرَ على الكاحلِ
من قيدِ السجّانْ.
فهي اللهبُ ووديانُ الويلِ
وغيظُ تميّزهِا الفوّارُ،
وغلظتُها المسعورةُ والحَرْقُ
وَجَذْوَتُها البركانْ.
وهي الطاهرةُ الندّاهةُ
مَنْ يَعْدِلُ في الدنيا الميزان،
ومَنْ يُعلي الحقَّ
ويقضي بالَعْدل على الغيلانِ،
ومَنْ يُرجِعُ أرضَ الشِّعرِ
إلى حُلمِ النرجسِ،
ويزوّجُ أعراسَ النّهر إلى بيسانْ،
وهي النارُ / الثوراتُ
ربيعُ شعوبِ الأرضِ المقهورةِ،
والشهواتُ المذبوحةُ في الكّرز الريّان،
هي النارُ ضميرُ النوّارِ
المنعوفِ على الحيطانِ،
وما كانت تعرفُ غيرَ سجونِ الذلَِّ،
وآنَ لها الوقتُ
لينقلبَ السحرُ على الساحرِ،
أو يُأكلَ ما يرمي الفرعونُ
إلى الثعبانْ.
يا مُهْرَ الَبْرقِ المغدورِ
ثلاثاً من إخوتِكَ،
تنزّلتِ الأياتُ على شاهدِكَ،
ولم يتبقَ سوى أنْ نعترفَ
بألواحِ الوحي النازل، ثانيةً،
ونقولُ: لنا الآيةُ والعُنوان.
وسيبدأُ عصرُ مساواةِ الناسِ،
فلا عَبْدٌ في سوقِ نخاستهِ
كي يرعى نُوقَ أبي سفيانَ،
ولا ساداتٌ في الخيماتِ لتفعلَ،
ما شاءَ أنو شروانْ.
فَهُنا، بالضبطِ هنا، والآنْ،
الثورةُ خمساً في الآذانْ.



-3-

في البرّ الظمآن ستفتح مرآة الزئبق،
وتنادي ناجي المغموسَ
بزيتِ الأشجارِ الريّانة،
يا ابن الحقلِ الباذخ
بحريرِ مواقدِه الممتدة،
من غبش المغرب
حتى أعراف الديك، مع الجرَس القادم
من بيت المقدس،
فتحطّ القافلةُ المحروسةُ في بيت أبيك،
ليَرفعَ أحمالَ المْسكِ
وتفاحَ البارود
واثوابَ العندم،
وتجيء النجماتُ على خَفَرِ الولهان،
وتفردُ ما شاء لها من قمرٍ
ويكون السامرُ والياقوت.
واٌرْتَجّ الكوكبُ
وانفضَّ الُعرْسُ،
وبعثرتِ الغُربةُ أقواسَ الدارِ،
وغِبْنا في العتمة،
وبحثنا عن بوصلة الأرض،
وكان اللاجيء يهجسُ بالوَشْمِ الناريّ،
وأشرقت الأغوارُ
وأضواءُ الشامِ
ونورُ الأرزة في بيروت .
وفي الهامش يتسللُ ليلُ الغُرباء المشبوهُ،
وطاووسُ العَرْشِ ومالُ النفط،
وماروا في الطرقات الطاهرةِ !
وكان ، لينتصرَ الشهداءُ، الحِبْرُ المتوهّجُ،
كالبرق يشقّ العتمةَ في التابوت.
وكنتَ العنوانَ الأطْهَرَ
لسراجِ الفقراء،
وأيامِ الشهداءُ،
وعودة مَنْ عبروا في الماءِ،
فلم يحتمل المرتدُّ أو القاتلُ،
وانتبهوا أنّك تجترحُ الثورةَ
ثانيةً، في الروح،
فلا بّد تموت !
ولكنك، كالنيزك
تتشظّى،
وتبثّ نثاركَ في كل الظُلمات،
لتنهضَ قبلَ القافلةِ الشمسُ،
وتمضي الصرخات المولودةُ
أو ينهار الصمتُ،
وتعلو أنوارُ الملكوتُ .
سكوتٌ
وسكوت!
ألرسمةُ أغنيةُ الناسوت .
-4-

وضبابُ المملكةِ العُظمى يُعْشي العينين،
وأشباحُ المُدنِ الكبرى في كل مكانٍ
كالأشجار المزروعةِ في الجَنبَاتِ،
فإن مِلْتَ قليلاً،
سيسنُّ الحوُر قواطِعَهُ في اللّحمِ،
وإن نِمْتَ ببيتكَ،
سيجيءُ الصفصافُ إلى البابِ،
ويخلعُ كاللّصِ المدخَلَ .. ويفوت !
سُيطْبق أغصانَ الكُرْهِ
على النَوْمِ، ويفغشُ جمجمةَ الرأس !
هو المرجلُ، مَنْ يفتحُ أسنانَ القرّاءِ
ويجعلها كالفحم الساخرِ،
أو يُبكي الناسَ من الضحكِ الأسوَدِ.
والرأسُ الشائبُ لا يعرفُ فاكهةَ
القومِ المسمومةِ والنادرةَ الحمقاءَ
وبعضَ فُكاهات جُحا الثوريّ.
هو المشتعلُ رماداً فوق شآبيب
الجَمْرِ وهندسةِ الريحِ،
فلا غَرْوَ إذا احترق الرّسامُ،
ولكن الأغرب أن يَقتلهُ الأصحابُ
المبتهجون بنّصْرِ الوَهْمِ على الطاغوت !
ورأسي يثقله الدمعُ كرأسِكَ،
تُحْزِنه الهرولةُ المفجوعةُ للعدَمِ،
وَيُرْعِبُه القائدُ بملابسهِ الكاكيّةِ،
إنْ سار على إيقاع الموسيقى الكَنَسيّةِ
في عُرْس لقاءات الرؤساء بقمّةِ
أُمّته في المرعى السكسونيّ
ويحلمُ أنّ نياشين الأكتافِ
ستحمي قُدْسَ الأقداسِ من الرهبوتِ ..
فيا ناجي المشروخ من الصَّدرِ
إلى الساقين، تهيّأ لتعَودَ ..
ولكنّكَ لن تجدَ الرمْلةَ واللّدَّ وحيفا
وخليلَ الرحمنِ وغزةَ وجنينَ ..
هنا، في أرضِ فلسطينَ ترى
الجنّةً كاملةً بالحَوْضِ وحُورَ العينِ
وأنهارِ الشّهْدِ،
ويرجع جدُّك للناصرةِ، وقانا سيفيضُ بها
الماءُ الخمريُّ وترقصُ أشجارُ التوت ..

ويبقى الشاهدُ في بيروت.
-5-

جَلسنا على مَفرقِ الشَّمسِ، كانت تَجيءُ لَنا بالسَّنابلِ والزَّهرِ، والبيتُ في بَيتِ شِعرٍ قَديمٍ يَليقُ بِأحجارِهِ المُعشِبات، ولَم يَعرفِ الإخوةُ السَّاهرونَ السَّواحلَ في شَهوةِ النَّائِمات اللَّواتي صَبرنَ، وأَعددنَ ثَوبَ الحِدادِ الطَّويل .

وكانت أَباريقُكَ ؛ اللَّيلُ والنَّايُ، تَسقي الحزينَ، وتَربطُ قَلبَيْهِ بالوَطنِ الغائمِ المُهتَدي بالقَذائفِ والمَوتِ، كي لا تَكونَ الحَياةُ كما رَسَمُوها على صَفحةِ الرَّملِ، ظِلاًّ على الجَسدِ المستَطيل .

خَرَجْتَ من الأَخْذ، كانَ التناقضُ في شَاهدِ الحقِّ، أعني المُخيّمَ في بحثهِ عن فضاءِ الكرومِ ،
وعاكستَ نومَ الطَّواويسِ، أبصرتَ أن المسدسَ قبل الغصونِ، إذا التبسَ القاتلون .. ولو أنّهم أخذوا الإصبعين لما كنتَ في هاجسِ الرَّسمِ رمزاً، وما لَبِسَتْ زهرةُ البرقِ تيجانَها، إنّما خانكَ الخائنونَ الذين إذا ذُكِرَتْ أرضُنا انْذَهلوا، ثم ما لم يكن كان بالنَّصلِ والرُّوح وما كنتَ تُعطي الأمانَ إذا لم يكن غَدُنا في الجليل .

أرادوكَ في الصَّحَراءِ الطريدَ، إذا لم تكن راعياً للقطيعِ ، وسقّاءَ ماءٍ ، فإنْ أزهرَ الرَّحْمُ
أو ضَوَّعَ الفَحْمُ فالسَّهْمُ في الظَّهرِ حتى يضيعَ المدى والدَّليل .

وكَم بُحَّ صَوتُ المُنادِي، ولَم يَسمَعِ الأَقربونَ! دُفِنْتَ وقُمتَ وأَبعَدَكَ اللَّيلُ حتَّى يَنامَ ، وقُمتَ كما كنتَ، تَنفُضُ المُدُنَ السافراتِ، وحين خَرجتَ : إلى أَينَ ؟ قُلتَ : إِلى مَاسَةِ المُستَحيل .

وكيفَ لنا بعد هذا الجنونِ الذي اجترحَ العَقلَ أنْ نفقِدَ التُّرْسَ؟ والرُّمحُ من كلِّ فجٍّ يجيءُ ، وفينا ، على عَصْفِنا ، ألفُ جُرْحٍ بِكعْبِ الأخيل ؟
وها أنتَ في رَهْجةِ الليلِ، في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ؛ جَنينٌ من النُّورِ خَلفَ الجِدارِ الحَديدِ. هنا ابتدأَ الحَمْلُ ؛ من نُطفةِ الرَّايةِ المُِشتَهاةِ على حَجرِ الطِّفلِ والبُندقيَّةِ ، والقَوسُ يُكمِلُ زينَتَهُ للمياهِ، وللسَّيفِ يَفتحُ، للعائدينَ الجوامعَ، والبُرجُ تَنثالُ أَجراسُهُ السَّلسَبيل .

وَمنْ ذا الذي ظَلَّ في العينِ إنْ أيقَظَ الصَّـقْرَ أو صَدَّعَ الصَّدْرَ ؟ حطّوا وراحوا ؛ المغولُ التَّتارُ الفِرنجةُ والفُرْسُ والسِّيرُ والقُمْصُ والرُّومُ والفُونسُ، والتَّائهُ الجِبْسُ والبُرْصُ والخُرْسُ والكِنْجُ والبُصُّ، جاءوا وزالوا وكانوا وآلوا كأنْ لم يكونوا ! دخيلاً تَرَسَّم خَطْوَ الدَّخيلْ .

نثارُ الصِّغارِ المضيءُ مضى للبعيدِ ، وأشعلَ نارَ الهدايةِ في النَّطْعِ، من صَدرِنا ينبعُ الكهرمانُ
ومن أرضِنا يطلعُ السنديانُ، ونروي الحكايات حتى يجيءَ إلينا الزمانُ .. وأنتَ الوحيدُ الذي قال : لا، للذي يمسكُ الكوكبَ المحتفي بالدماءِ . ورغمَ الرمادِ المحيطِ جمعتَ المواقدَ صوّحتَ في الصَّمتِ ما أطبقَ الطائراتِ على الأرجوان .. ومن عتمةِ القصفِ نبدأ ، حتى نرى كيف يمضي ، بعيداً بعيداً دخانُ الرحيل .

لدينا شبابيكُ وردٍ وأحجارُ كُحلٍ وغزلانُ موجٍ وأبناءُ حقلٍ وحسرةُ أمٍّ .. تنادي على شجرٍ لا يميل .

كأَنَّا ابتدأنا من الموتِ حتَّى نُرنِّقَهُ بالحَياةِ ، وقُلنا : تَعالوا إِلى بَهجةِ الانفِجارِ ، وكانت تِلالُ الشَّواهدِ أَنَّى خَطونا تُلاحقُنا .. لَم نَقِفْ ،وانطلَقنا معَ الجُرحِ والنَّوحِ ، فينا المُلوحَةُ والنَّحلُ
والدَّارُ والرَّحلُ والرَّملُ والسَّهلُ والنَّارُ والنَّخلُ، كلُّ المُغنِّينَ فينا ، ونَهرُ الفَجائعِ ، والكَشفُ ،والصُّبحُ في بُرعمِ اللَّوزِ ، واللّيلُ مُحتَشدٌ بالعَويل .

غَمَستَ أَصابِعَكَ البِيضَ في جَفنَةِ الثَّأرِ ، كانوا وراءَ المضَاربِ مُلتَحفينَ الخَناجرَ ، أَبناءُ أَعمامِكَ الصَّامِتُونَ ، الَّذينَ تَوالَوا على لَحمِكَ المَجدَليِّ ، اختَفوا عندما جَاءَتِ الأَرضُ في ثَوبِها المَقدسيِّ ، وَحُمِّلْتَ ما لا يُطاقُ ، ولكنَّكَ الكَبشُ يُفدِي بكَ اللَّهُ أَبناءَهُ الطَّيِّبين ، وأَنْ لا يَكونَ عَلينا السَّبيل ..


أعدّوا المراثيَ ألفاً بلا مُلْصَقٍ للجدارِ، ولو كان صوفُك منهم تَبِعْتَ المليكَ الذي ضَلَّ يوم الغداة، ولو كان خُبزك من بيتهم كنتَ عبداً يسوق السُّعَاة، ولو كان سيفُك من غمدِهم كنتَ حارسَ ما ملكوا من لُهاة، ولو كنتَ منهم لأصبحتَ في عرشك السَّيِّد المُستعار .. ولكنَّكَ الأيْلُ من أرضِ كنعانَ لا يغمض الجفنَ حتى تعودَ السَّما للهديل.

كفى أنّك ، الآنَ ، بعضُ الذي باركَ اللهُ طيناً من القُدسِ، تلكَ التي شَرِبَتْ دمعةَ النارِ والأولياءِ، وهذي بلادُكَ منذُ الخليقةِ كوّنها الربُّ حتى تكونَ الوصيفةَ للحُسْنِ والخُلدِ ، جنَّتهُ في الكواكبِ، أُمثولةً للتي سوفَ يعبرها الأنبياءُ على سُرُرٍ تحت ظلٍّ ظليل .

ومن زمنٍ يصطفيكَ الذي يصطفي الشُّهداءَ لترسُمَ إلياذةَ الناسِ بالخيلِ حتى تكون البسيطةُ مطهمةً بالصَّهيلِ .

وفي كل برٍّ سهامٌ تشير إلى بيتكَ السَّاحليّ ، هنا يهبطُ النجمُ في جمرةِ الكَسْتَناءْ، وبنتٌ تُعيد مناديلَها للنِّداءِ وترجع من نَبْعِها دون ماءٍ .. وفي بيتك النرجسيِ الضفافُ التي غمرتْ أغنياتِ النساءِ اللواتي عَجَنَّ القرنفلَ بالزَّنجبيل .

تُحاصِرُكَ الأَرضُ ؟ هذا فَضاءُ الأَغاني ، ومِعراجُ أَجدادِنا للسَّماءِ ، وصوتُ النَّبيِّ على خَشبِ الزَّيتِ. اِضْرِبْ بِقَبضَتِكَ البَابَ تَصحُو القِبابُ وتَبقَى على عَهدِها للقَتيل ..

وهذي طبولُكَ خلفَ التِّلالِ ، وطيرُ العقاب على كَتِفِ الغيمِ ، والعُرْسُ يبدأ عمّا قليل.


-6-
سينادي في الحيَّ مُنادٍ :

يا أهلَ فلسطينَ!
فتخرجُ من مخدعكَ الدافيءِ
لا تُرْسَ ولا سيفَ
سوى ريشة نَسْرٍ في الكفَّ
وحِبْرٍ نبويًّ
يحرقُ خرتيتَ الثورةِ،
أصباغَ التحريرِ
وسمسارَ الكُرّاسِ ..
فيا ناجي المغسول بدمعِ النّاسِ،
وأنتَ دريئتُنا الدرْعُ
وفولاذُ البرجاسِ،
سيَقْتُلكَ الوسواسُ الخنّاسُ،
الفائضُ بالحُرّاسِ،
ومئذنةِ التأويلِ
وأشباحِ الأجراسِ،
فلا تخلَعْ أثوابَ النوم،
ولا تُعطِ الأخشابَ عطورَكَ
فمياهُكَ باردةٌ في الكاس،
وهل تذكرُ ليلَتَكَ
وليمونَ الأنفاسِ
وريحانَ الأعراسِ،
وعرشُكَ محمولٌ في الغيمِ
ومنثورِ الأقواسِ ؟
ستبقى الحيَّ الطاهرَ
وإنْ افترعَ البرقُ سحابَ وسائِده
العسليةِ وحريرَ الأفراسِ،
وتبقى الحيَّ الطاهرَ قبلَ زفافكِ للطيرِ،
السابحِ في بلّور الماسِ،
.. وتبقى يا حنظلةَ .. المتراسْ.
-7-

وإنْ قُمْتَ من شارعٍ للرصاصِ،

فقد كَتَبَتْ آخرُ القطراتِ

الطريقَ إلى الدار، هذا الذي

سوف يبقى لمن طلعوا من زوايا الأناء

أو الزّنكِ، وامتشقوا الداليات،

إلى النارِ. هذا هو الرَّسْمُ

فابعثْهُ من أسود الصفحات إلى

أخضر الغارِ. واجعل لحنظلةَ

المستحيلِ الخطوطَ التي لا ترى غير

أرض فلسطين، من بحرها اليافوي إلى

نَهْرها المُسْتثارِ، فقد سرقوها ولكنَّ

ألوانكَ الواضحاتِ تعيد لنا، الآن، كل

البلادِ بأغنيةٍ في الفضاءْ.

رسوماتُك البندقيةُ والحقلُ والثوبُ

والمنجل المحتفي بالسنابل والإغنيات،

وهذي الصحائف من روح جرحك

تمضي إلى وشْمها في الخلود،

وحِبْركَ هذا الذي شفّ،

كالخنجر المستنير هو اسمُ البلادِ

الجديد، ورسْمك في عتمة الغافلين

المَضاء.

وإنْ أطلقوا النار في صدرك المستريح،

فإنَّهُمُ قد أصابوا فلسطينَ في القلب !

لا حزنَ .. لا دمعَ .. لا شاهداً

لا عزاء..

ويا أيها الأنبياء الذين تواروا عن السَّمْعِ

عودوا إلى واجهات البراكين، لا حرف، لا

لونَ لا صوت يبقى إذا لم يكن قد

تسربل بالصلوات التي سجدت للدماءْ،

ولا صورة للحياة التي سوف تمشي على

هَدْي عودتنا للبيوتِ

إذا لم تَفِضْ دفقَةُ الشهداء، وما

خُطبةٌ في الجموع لها وَزْن ريشتها

حين لا تنحني للمآذن شامخةً

في السماءِ. هنا القدس يا حنظلاتُ

التصاوير ! عودوا وهبّوا

فقد حقّت اليوم فينا قيامتكم كاملةً

دون موتٍ، وقد آن أنْ تبزغَ الشمسُ

ساطعةً من أصابعكم للخليقةِ

من صبحها للمساءْ.



-8-

لم يُعْطِني قَمراً للبيوت،

ولم يَنْتَبِه للتي رَكِبَتْ فَرسَاً للسّماء.

هو الحُرُّ حين أكونُ أنا اللونَ في زهرة الهندباءْ،

وأبدو هنا سيّدَ العشقِ والعاشقين،

أَعُدُّ الحُروفَ التي خَرجتْ من جُروحِ القَرُنْفُلِ،

أرسمُ ما كُنْتُ أهجِسُهُ من غُموضٍ،

وأمضي وحيداً إلى سُندُسِ النّارِ،

إنْ دفَقَ الأَيْلُ دَمَعَتَهُ في الفِراء.

ويبكي كِلانا من الجَمْرِ،

إنْ خُلِعَ الثّوبُ عن جَسَدٍ للبُكاء.

-9-

هنا شجرٌ راقصٌ في الطريقِ،

وشمسٌ على حائطٍ في المساء.

هنا شغفٌ في العقودِ التي ارتفعت

في معاريجِ نجمتها ،كي تنامَ على

أفُق ٍ للبهاء.

هنا زفَّةُ الهادلاتِ على سروةِ العيد،

دربُ النشيد،

وأحداقُ زنبقَةِ الأنبياء.

هنا لا أرى دارَ مَن نَهَبَ الدار،

أو سُورَهُ في المهاوي،

وقَلعَتَهُ في الخَواء.

هنا بيتُ عمّي وخالي،

صخورُ الرّعودِ، ونرجسَةُ الدفتَرِ الطّفلِ،

بئْرُ شقيقي،

وعتْمَتُهُ في الخلاء.

هنا يبدأُ الصوتُ حتى الفناءَ،

ويبقى، إلى أن يعودَ، النّداء.

-10-

ولم يكتشفْ يُتْمَه حينما كنتُ ألتاعُ في العيدِ،

لم يَفْرُك الزَّهرَ في حضرةِ الصّمتِ،

هذا حَمامي الأليفُ،

الذي حَلِمَتْ في جَناحَيْهِ لَيمونةُ الدارِ ..

قالت له أُمُّهُ : قد وُلِدْتَ مع المَغْرِبِ الساحليَّ

في شَهرِ إعصار،

كان المحاربُ في أوَّلِ النَّحْرِ،

والدمعُ في أوّلِ الجَمْرِ

والدّمُ في مَوْقِدِ الانتظار.

وقد جاءَ يَحْلُمُ، بالسِّجنِ واللّونِ،

مثلَ أبيهِ الذي قَدَّ عُمْراً طويلاً،

وراءَ العَقاربِ حتى يرى في الليالي النهار.

وما زال يَحُلُمُ عَكْسَ أبيهِ المُعَفَّرِ بالقَهْرِ،

كي يَشْهَدَ الشمسَ في بَهْجَةِ الإنتصار.

وأَسْأَلُه: كيفَ عشقُكَ؟

يضحكُ ثم يقولُ:

إذا مسّني ريحُها هبَّتَ النارُ في النارِ!

يا صاحبي! إنها امرأةٌ من دموع الصلاةِ

وبرقِ القلوب ونار المجرّاتِ ...

هذي، إذاً، ليست امرأةً

إنها كلُ هذي الحياة!

لهذا، أخافُ من الموت أن

يستريح طويلاً على برزخ الظلمات،

وألاّ أراها هناك على قمّة الغيمِ

تمشي وتتبعها في الجنان عيوني،

وأندهُهَا، بعد عُمرٍ طويلٍ: لماذا تأخَرتِ

أين ذهبتِ، فتأتي ..

كأنْ لم تغب ساعةً في السُّبات.

-11-

وإنْ نِمْتُ يُشْعِلُ أجراسَهُ في الكؤوسِ،

ويُعْشي عُيوني دُخَاناً أليماً،

فأصحو على دَمْعَتيْنِ،

يشيحُ بِمُخْضَلِّ جفنيهِ عنّي،

ويندسُّ في الصُّوفِ،

أصحو أنا كي أرى طَيْفَ مَنْ جاءَهُ في المنَامِ،

فألقى ملاكاً جريحاً،

يُغَسِّلُ قُمْصَانَهُ في مآقيهِ،

يَعْدو إلى بَيْتهِ خَالِصَ الثّلجِ،

ألقى رفوفَ العصافيرِ،

وهي تُدَرِّجُ أبناءَها فوقَ جبهَتهِ،

أو أرى دمعَ مِنْديلِ أُمّي على فَمِهِ،

مُطْبقِاً كالغَمام.

فأُوقِظُهُ مِن جَديدٍ،

فَيشْتمُني دُونَ سُوءٍ،

وَيأْمُرنُي أنْ أنامَ،

وَيَستَأنِفُ القَوْلَ بالسُّخْطِ،

ثم يقولُ: أنا مثلُ مَنْ ماتَ باللَّحْظِ ،

لكنني أَقْرَبُ الآنَ مِن صدر قاتلتي..

سوف أودِعُها الطيرَ

حتى يكون له برجُه في الرخام.

*

يظلُّ على حاله،

يُؤْنِسُ الليلَ،

والنَخْلَ في البيدِ

والباكياتِ على طَعْنَةٍ في الوليِّ،

هَوتْ في قُلوبِ الذين أضاعوهُ،

حينَ أشارَ إلى حقِّ سِبطِ النبيِّ بسيفِ الإمام،

ولكنَّهُمْ خَذلوا ما أرادَ،

فلا بأس من كَرْبَلاءٍ تَنُوحُ،

وتمتدُّ مِن رأسِهِ في الطريقِ،

إلى حيثُ كانَ عليهِ السلام.

-12-

في فمي دَمُهُ،

بَلَّ حَلْقِي بفِضَّةِ أقمارِهِ الظامئاتِ،

وَأوْرَثني ما يُؤَثِّثُ هذا المدى بالنّشِيجِ

ولَمْعَةِ جُثَّتِهِ في القَتامِ،

فكيف أرى ما يُمَزّق عينيهِ،

في مَشْهَدِ الانكسار العنيفِ،

وما بدّدَ الصوتَ في صَرْخَةٍ للكَلام؟

وإنْ جاءَ بَيْتي،

سَيَحْمِلُ شُعْلتَهُ للشموعِ،

ويفتحُ نافذةً في الجدارِ، لأَنظرَ مِنها؛

أرى مُدُناً قَطعوا رأسَها في جَنازَةِ أبنائِها،

شَعْبَهُ في هيولى الدّماءِ،

نياشينَ مَنْ باعَ أرْضاً بِوَهْمٍ،

وَشُرَّدَ في كلِ فجٍّ عميقٍ،

.. وَلي أنْ أرى لَيْلَةَ العيدِ،

أو رايةً في الظَلام.

-13-

وإنْ جئتُ يوماً إلى بحر ليمونةٍ في البعيدِ

أرى دمعَ زوجتِه في البريدِ،

وألْقاهُ يرسم للموجِ ضحكتَه ..

كان صوتاً من البحرِ في خاطر الرمل قبل الدم المُستباح،

وكان على الزّهر إكليل عُرْسهما، ثم حلّ

النجيعُ على حُلم العاشقين .

هنا، اللاجئونَ ينامون مثلَ الذّئابِ،

وكانت مفاتيحُ بيّارةِ البحر أكبر من نوْمةِ المتعبين.

وما طلعت دالياتُ الخيام من الغيبِِ،

بل من تلاوين أَغنية الميتّين الذين

أرادوا الحياةَ، فكانت لهم لوحةً ثم

أرضاً وخبزاً ومملكةً للحنين.

وها نحن ننتظر الُعمْر حتى يفاجئنا بالنّعاس،

ولم ننتظر كل هذا الزّمان

ليفجعَنا أهلُنا بالخرابِ،

فيا أيها الحاَلِمُ المستفيق اعْطِنا من

فضاءٍ الشرايين ما يجعلُ البيتَ بيتاً،

نعلّقْ على صدره الصورةَ الُعرْسَ

والغائبين .

أعْطِنا يا صديقي من الحِبْر ما نشتهي،

كي نرى بعضَنا عند بوابةِ الُبرْجِ

في بلدِ العائدين.

-14-

وإن رُحْتُ للبَيْتِ،

ألقاهُ يَحْدو على هَوْدَجِ الرّكْبِ،

هذا التّبتُّلُ وَجْهٌ غَريبٌ

على ما أَتَاهُ مِنَ الغُصْنِ،

يَذْكُرُ مُبْتَسِماً أنَّهُ عاشَ في جُلّنارِ الخَطيئَةِ،

أو سَاقَهُ هَاتِفٌ للواتي فَتَحْنَ الحقولَ،

على فِتْنَةٍ للصّلاة.

يقول: أنا نادمٌ يا صديقي،

وقد مَضَّني عَرَقٌ نافِذٌ،

جاءَني مِن مَسيري إلى مَخْدَعِ الناحباتِ ..

ولكننّي بعدَ ذاك النحيبِ،

شَعَرْتُ بِضِدّينِ ؛

هذا مَساسٌ ،

وهذا حسابٌ ،

ويبقى هُناكَ وأبقى هناك ..

كِلانا على نَدَمٍ في المَماتِ،

ونحنُ على نَدَمٍ في الحَياة.

*

ولَمْ يتجرّأْ عليه الزمانُ ،

فتيّاً، كأُنْشُودَةِ السنديان

تَمرُّ على جانبِيهِ العواصفُ،

لا يَرْتَخي .. مِثْلَ كفِّ الغريقِ.

وَيَجْمَحُ مثلَ الأناشِيدِ،

إنْ بَرَقَت كالحريقِ.

ولكنَّهُ يَسْتَحيلُ إلى ذَوْبِ أوتارِ عاشقةٍ

لم تَجِدْ دَرْبَها في ذراعِ الذي قال:

إنّي الصديق!

ويبدو سُلافةَ كأسِ الشّجِيِّ

الذي ضَلَّ في عَتْمَةِ الحَان ..

يا أيها الهَشُّ مثل الزّجاجِ الدخانِ

وأصْلَبُ مِن أحمرٍ في العقيقِ.

أنا النايُ والسّيفُ

والثلجُ والصّيفُ ..

هذا البريءُ النتوءُ أنا

حَجَري مِن نَدى،

خِنْجَري بُرْعُمٌ

والذي أخذَ القمحَ مني طليقٌ

لأبقى له بَيْدرَاً في الطريق!



-15-

ويعجبني أنّه كُلّما مرََّ قُرْبَ الزبرجد

قال: أُحبُ خُواني الذي يطفح الزيتُ فيه

على الجَنَباتِ، لأُكمل قصّتنا السالفة !

(وكانت ملامحة خائفة !)

ثم يمضي إلى رُشْده قائلاً:

وغداً سوف نفردها، عند عودتنا!

(ثمّ تبرق في عينه دمعةٌ ناشفة!)

ثم يمضي إلى رشده سائلاً:

هل نعودُ إلى أرضِ أحلامنا الخاطفة ؟

(وتغلِبُه العاطفة!)

نعم سنعودُ، غداً سنعودُ ..

وكررّها، مثل طفل سيحفظ آياتِهِ

أو أناشيدَ أَمَّتِهِ الوارفة ..

هذا صديقي الذي مَضَّهُ الحِبْرُ

لم يبرح اللعبة النازفة

نام ..

ما نام، سافرَ في الحلمِ ..

قبَّل كاساتهِ في السرير

فَصَاحت مناديلُها الذارفة

-16-

وباغَتَني أنَّهُ مِثْلُ بَعضِ النِّساءِ،

يريدُ مُغَامرةً تَكْسِرُ القيدَ!

يَفضَحُهُ مِلْحُ فَخْذَيهِ،

والوَشْمُ في قهوةِ السّاهرين.

وكنتُ على هودجِ الليلِ

أدْفَعُهُ كي يَثُوبَ إلى عازفٍ يذبحُ العاشقين،

وَيُخْرِجَ كلّ الأفاعي الجميلاتِ من يَدِهِ،

أو يُضيءَ المكانَ بخفَّةِ ريشَتهِ

كي يُعَلِّقَنا فوقَ لَيْلَتهِ مَيّتين.

وَيُلْحِفُ أنَّ التي جَلَسَتْ عندَ زَاوِيَةِ البابِ،

لَمْ يَرَها غَيْرُهُ، حيثُ كانت مَلامِحُها غيرَ واضحةٍ،

مثلما وردة في الضبابِ ، ولكنّها

خَلَعَتْ كلَّ ما تَلْبِسُ السيّداتُ، ومِنْ حَولِها

راقصتها الأفاعي، تَلَوَّتْ، ولابَ بها السُّمُ،

صارَ يَديها وسيقانَها ..

والتي رَقَصَتْ مِثْلَ زوبَعةٍ في المكان،

تَدورُ على نَفْسِها كالجُنون ..

وتأتيهِ من حيث يحتسب العاشق الفذُّ،

يشعل كلَّ التلالِ بألوانهِ،

ثم يمضي إليها،

ولا أرض يمشي عليها،

ولا يهتدون..

-17-
إذا رُحْتُ جاءَ،

وإنْ جِئتُ يبقى كَصَوْتِ القَوافِل في هَدْأَةِ الليلِ،

يَنْأى، وَيُوحي بِصَمْتٍ ثقيل ..

له ما تهَشَّمَ مِن حُلُمٍ في الشّبابيكِ،

والأرضُ من تَحْتِهِ للسُّقُوطِ إلى شجرٍ مُعْتِمٍ،

والمدَى هامشٌ للشَّظايا،

فكيف له أنْ يُربّي الغزالَ

على ريح هذا الزمانِ العليل؟

أُحاورُهُ ألفَ يومٍ ليَهْجُرَ غِرْبانَهُ

أو ليبتاعَ مِن هِجْرَةِ النَاسِ أحْصِنَةً من غمامٍ،

يُجَنِّحُها إنْ أرادَ من اللّونِ ما

يُشْعِلُ النارَ في قُبَّةِ المُسْتَحيل ..

ولكنَّه لا يَرى للنَّوافِذِ إلاّ العصافيرَ،

يُطْعِمُها من سَنَابِلهِ ما يهيّئُها للشروقِ

وَيَطْلُعُ من جمرةٍ في الأصيل.

صديقي تُهيِّجُهُ الذكرياتُ،

ووردُ الطريقِ،

وكشحُ الرَّشُوفِ،

ويبكي على كَتفِ الأُمَّهاتِ

وَصَمْتِ الورودِ وَمَوْتِ الحُروفِ،

وَيَذْبَحُهُ كلّ ذئبٍ جميل ..

أنا اثْنَانِ،

لي أنْ أوزّعَ روحي على ألفِ جُرْمٍ،

ولي أن أكون وحيداً وحيداً،

وشَعباً ذبيحاً،

وكوكبَ حُزْنٍ ،

وكلَّ الفراغٍ الذي عبأتهُ الدماءُ الدموعُ،

وصوتُ القتيل.

صديقي هو العاشقُ /الناصعُ /الساطعُ/ الكستنائيُ/

كان في غابةِ البحرِ والقُدْسِ

كان على رأس بيروت يرمي فراشتَه للسواحلِ

حتى يجيء الدليلُ الدليل .

وما كان يرغبُ في السهم،

كان هو السهمُ والقلبُ والعشقُ..

والظبيُ لم يكُ في بيتهِ،

كان في قلبه منذ أن وُلدَ الزّهرُ في الجمْر

والطيرُ من غيمة المستحيل.






-18-



أنا يا صديقي، بلا صاحبٍ في الزمان،

فَهُم مثل هذي البلاد، بعيدون جداً

قريبون جداً

وتذبحُهم أرضُ مَنْ لا يراهم عليها

سوى نجمةٍ أَفلَتْ في السماء،

وليس لها أيّ حق بهذا الفضاء!

فيا صاحبي أنتَ في حمأةِ النفيِ والرفضِِ،

والطفلُ في أوج مذبحة القبضِ،

والبنتُ، من عسل الصبحِ، تسبحُ في دمها،

إنّها أرتفَعت مثلَ نخلتها في البهاءِ،

وطاولتِ الشمسَ أو سيّدَ الشهداءِ،

وما زال في بالها أن تراك هناك/هنا

في البلادِ، لترسمَ أقمارَها فوقَ هذا الضياءِ ..

فيا صاحبي! لا تنمْ

وارسم اللوحةَ الآنَ

مطهمةً بالدماء.


-19-

صلّى على دمِكِ الورديَ نوّارُ
أمّ غيَّرَتْ طَبْعَها في حبِّكَ النارُ
أم البلادُ، وهل أبقوا لنا بلداً
وكلّهم في مزادِ البَيْعِ ثوّارُ؟
أم الشّهيدُ وقدَ ضاقت شواهدُه
فأكملَ الليلَ بعد الموتِ سُمّارُ !
أم البنادقُ والغيماتُ قادحةٌ ..
فكيف تَعْطَشُ في الأمطار أمطارُ
أم الأغاني إذا هاجت وحنَّ لها
من المنافي غريبٌ همُّه الدارُ
وكان قد جعل الحيطانَ تذكرةً
لبلدةٍ.. غابَ عن جيرانها الجارُ
وعلّق الصورةَ الأغلى، وكم شهدت
لصاحب الوجه بلداتٌ وإيثارُ
هذا أبوك كأن الرّمشَ بوصلةٌ
يرنو لحيفا وعينُ الصقر إبحارُ
وطاف بالفرس السمراء أوديةً
وأيقظ التلَّ، والبارودُ زنّارُ
وحطّ رَعْداً، وغصنُ البرق في يده
حتى تصادى له قَصْفٌ وطيّارُ
فَشَيّعوهُ كأنَّ الشمسَ قد حُمِلت
إلى المغيبِ وقلبُ الطين موّارُ
ولا عزاء سوى أن النهار إذا
تنفّسَ الفجرُ فالإصباحُ قيثارُ
***

أَرَدْتَ أن يستفيقَ النائمون فلا
ظلّوا نياماً ولا قاموا ولا داروا
كأنّهم في كهوف الصمتِ قد رُكِنوا
وأُسْدِلت حولَهم في البُعْدِ أستارُ
فكنتَ وَحْدكَ في عشواء غافلةٍ
في خبْطِ ضوضائهم والوَهْمُ ديّارُ
أنتَ الضميرُ الذي اغتالوه فارتبكت
على فمِ الذُّلّ أشباحٌ وأخبارُ
فارجِعْ إلينا صراخَ القهر ثانيةً
وافتح قميصَكَ فالتاريخُ دوّارُ
سيقتلونك رَسْماً حارقاً ويداً
واسْماً وحِبراً، وفي الأبوابِ أشرارُ
***
قلبي لبيروتَ في ردّ الجحيم على
أعقابهِ وعلى الآفاقِِ إعصارُ
والفاكِهاني أو البركانُ إنْ فُتِحَتْ
أسرارُهُ فالمدى الناريّ أنهارُ
وعينُ حُلْوَتِه والشالُ في يدها
يزلزلُ الأرضَ إنْ حطّوا وإنْ ساروا
وكلُّ ما يكبحُ الغازين قام على
رَسْمٍ لريشتهِ فَالطيرُ سيّارُ
وعادَ حنظلةُ المغدورُ ثانيةً
إلى الرصاصِ وفَوْحُ القلب أطيارُ
***
أَدَرْتَ وجْهَك يا ناجي وما انتبَهت
أُنثى الثعالبِ أنَّ الظَهْرَ إظْهارُ
وأنَّ بنطالَكَ المرتوقَ قد عرفت
خيوطُه الطُهْرَ فالماضون أطْهارُ

وشوكُ رأسكِ هالاتُ النجوم إذا
كانت، فوجهُكَ في الّليلاتِ أنوارُ
وأنتَ والشهداء الخالدون ومَنْ
ظلّوا على الدرب .. للمبعوثِ أنصارُ
وأنتَ والقابعون الثائرون على
قيْدِ السجون بوجه الريحِ صُبّارُ
وأنتَ والمُثخَنون الصابرون إلى
أن يبرأ الجرحُ، للأقواس أزهارُ
وأنتَ والناسُ في كل البلاد هنا
وفي المنافي إلى الآتين أقْدارُ
سترجعون إلى حنّاء زفَّتِنا
وموجُ عودتنا للدارِ هدّارُ
***
قد كذَّبُوهُ وأصنامُ القَبائلِ في
ساحِ البيوتِ وحَرْفُ القومِ إنكارُ
وصالحوا الأشرمَ الغازي إذا قصدت
أفيالُه الهدمَ، والخوّان خوّارُ
وقدّموا لِفَقيهِ الظُلْمِ طاعتَهم
لأنّه الليلُ للعميانِ أعْذارُ
وطأطأوا قامةَ الخُسرانِ إذ نطقتْ
مرآةُ كسرى كأنَّ النُطْقَ أمّارُ
خانوا الدماءَ، وضاعَ الأمرُ من يِدِهم
فَخَابَ مَنْ خَانَ، فَلْيَهْنَأ به العارُ
ألقوا الأماناتِ أو باعوا مذاهبَها
وغادروا عَهْدَ مَنْ يعلو به الغارُ


للشاعر الفسطيني المتوكل طه

تابعو الأردن 24 على google news