"بايدن" وطبول الحرب!
كمال ميرزا
جو 24 :
الرسالة الصارخة التي وجهتها زيارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" إلى الكيان الصهيوني هي أنّ الإدارة الأمريكية تريد من هذا الكيان إشعال حرب إقليمية في المنطقة!
قد يستغرب البعض ويجادل: كيف تعوّل الإدارة الأمريكية على الكيان في إشعال حرب بهذا الحجم، وهو العاجز على مدار حوالي أسبوعين كاملين عن تحقيق أي خرق عسكري رغم الدعم المفتوح أمام حركة مقاومة وشعب أعزل، وجّها له صفعة أفقدته توازنه، وفضحت هشاشته وتشرذم جبهته الداخلية؟!
الفكرة هنا أنّ أميركا لا تريد من الكيان الصهيوني إشعال وخوض حرب بالوكالة، هي تريد منه إشعال حرب من أجلها، تتدخل هي فيها مباشرة، وتخوضها بنفسها!
ولكن قبل الدخول أكثر في تفصيلات هذه الفكرة، هناك ملمح عجيب لا بدّ من الإشارة إليه.
في العادة، فإنّ حليف اليمين الإسرائيلي المتطرّف الذي يمثّله "تتنياهو" هم "الجمهوريون" باعتبارهم هم أيضا يمينين محافظين متطرفين يستقون من نفس المصادر التوراتية والتلمودية الدموية المحرّفة.
ولكن ما نلاحظه الآن أنّ "الديمقراطيين" الأمريكيين الليبراليين هم الذين يدعمون اليمين الإسرائيلي بتطرف يفوق تطرّف الجمهوريين أنفسهم.
قد يجادل البعض مرة أخرى ويقول: ولكن دعم الكيان الصهيوني والمحافظة على أمنه وبقائه هي أولوية أمريكية بغض النظر عن طبيعة الإدارة التي تجلس في البيت الأبيض.
وهذا من حيث المبدأ كلام صحيح، ولكن أيّ مصلحة للكيان الصهيوني في إشعال حرب أكبر منه تهدد أمنه وبقاءه؟! وأي مصلحة للكيان الصهيوني في إشعال حرب تخوضها أمريكا وحلفائها بالنيابة عنه، بما يعني صراحة انتهاء "الدور الوظيفي" الذي أُوجد الكيان الصهيوني أساسا من أجله؟!
الجواب ببساطة الغاز!
حروب "الديمقراطيين" هي حروب غاز (وأدوية)، أمّا حروب "الجمهوريين" فهي حروب نفط.. ولكن هذا سياق آخر للحديث لا مجال هنا للإطالة والخوض في تفاصيله أكثر.
الديمقراطيون يريدون أن يضعوا أيديهم على غاز غزة، ويريدون ذريعة لوضع أيدهم على غاز لبنان، وحتى الغاز المصري ليس بمنأى عن هذه الأطماع!
الجميع موافقون على "حلّ الدولتين" على أساس حدود خط الهدنة لسنة 1967 حتى "حماس" نفسها، فلماذا الإصرار الآن على إخلاء غزة، وتهجير أبنائها، وتوطينهم في عمق صحراء سيناء، وربما صحراء شمال الجزيرة العربية و(نيوم) بعيدا عن شواطئ المتوسط؟!
يستحيل أن يرضى "الديمقراطيون"، وشركات الغاز الأمريكية التي تقف وراءهم، أن تقوم دولة فلسطينية في غزة، بغض النظر مَن يمسك بزمام الحكم فيها، "حماس" أو "عبّاس" أو حتى "ياسىر عرفات" من قبره، بحيث تمتلك هذه الدولة ولو صوريا حصتها من غاز المتوسط، وسيادتها المفترضة على قاطع حيوي من مقاطع خطوط نقل هذا الغاز.
كما أنّ غزة بموقعها الجغرافي هي حجر عثرة أمام أي مشروع مستقبلي للالتفاف على مصر وقناة السويس، سواء أكان الحديث عن قناة بديلة من (إيلات) إلى المتوسط عبر خليج العقبة الذي لم تعد مصر تملك أي سيادة فعلية على مداخله، أو كان الحديث عن ممر بري لوجستي بدلا من قناة مائية فعلية (وبدلا من خط قطارات الإمارات - حيفا المشروع الثالث الذي يُزاحم في المنطقة)!
نلاحظ أن اسم مصر يقفز من بين السطور مرّة أخرى!
ومن هنا نكتشف سر البارجتين الأمريكيتين والسفينتين الحربيتين البريطانيتين شرق المتوسط، وربما هناك المزيد في قادم الأيام.
الجميع يتحدثون أنّ الغاية من تواجد هذه القطع الحربية الهجومية الفائقة هو ردع إيران وسوريا وحزب الله في حال سوّلت لهم أنفسهم أمرا!
ولكن هذا الكلام بالمنطق العسكري هراء وغير مبرر؛ فابتداء من قاعدة "انجرليك" في الشمال، نزولا عبر كامل شرق الفرات، والبادية الأردنية، وشرق الجزيرة العربية وصولا إلى البحرين حيث "الأسطول الخامس"، وقطر حيث "العيديد".. فنحن أمام سدّ فيزيقي متصل من القواعد الأمريكية والتواجد العسكري الأمريكي على الأرض القادر على ضرب أي هدف عسكري في المنطقة، والتحرّك باتجاه أي هدف عسكري في المنطقة!
وعليه، فإن البوارج الأمريكية والسفن البريطانية موجّهة بشكل أساسي نحو الدولة التي ترابط هذه القطع البحرية قبالتها: مصر!
ولكن ما الذي تخشاه أمريكا والغرب في مصر؟!
لو توقّف الأمر على "السيسي" ونظام السيسي ربما لهان الأمر، فالدولة المصرية من حيث تدري ولا تدري قد كانت خلال العشر سنوات الماضية شريك أساسي في العملية الممنهجة لتطويق مصر ومحاصرتها وإضعاف أمنها القومي، سواء من خلال تعميق الشرخ والانقسام داخل المجتمع المصري الذي طالما تميّز بلحمته وتماسكه، سياسيا من خلال صيغة إخوان/ جيش بدون أي أفق لمصالحة وطنية، وطبقيا من خلال فقراء/ كمباودات (كل ذلك بعد أن فشلت صيغة مسلم/ قبطي)..
أو من خلال ابتزاز مصر بالديون الخارجية، وسعر صرف الجنيه، وأزمة السيولة والنقد الأجنبي..
أو من خلال الفوضى غربا في ليبيا، وجنوبا في السودان..
او من خلال "سد النهضة" في أثيوبيا..
أو من خلال "الإرهاب" شرقا في سيناء، والذي تمّ اتخاذه ذريعة لتفريغ أجزاء واسعة من سيناء لا نعرف لماذا!
مرّة أخرى، لو توقّف الأمر على النظام المصري القائم لهان الأمر، ولكن أمريكا تخشى أن يتكرر سيناريو "بوركينا فاسو" و"النيجر" و"الغابون" في مصر، أو حتى أن يتكرر سيناريو الضباط الأحرار و"عبد الناصر"، أو حتى يتكرر سيناريو "السيسي" نفسه الذي انتزع السلطة من "الإخوان والمسلمين" و"المجلس العسكري" تباعا!
أمريكا/ الديمقراطيون سبق لهم أن خسروا حرب الغاز في سوريا..
ولم يربحوا حرب الغاز في أوكرانيا والسيل الشمالي..
وخسروا حرب الغاز غرب أفريقيا..
وللآن هم خاسرون لغاز لبنان وغاز غزة..
وآخر شيء يريدونه هو أن يتلقوا ضربة قاصمة جديدة في مصر.
ولاحظ هنا أن شركة (شيفرون) الأمريكية التي تم تفجير أنبوب الغاز الذي تعكف على مدّه في النيجر، هي نفسها التي تستثمر في الغاز الصهيوني، وقد أعلنت فور بدء الحرب على غزة وقف ضخ الغاز باتجاه مصر، والاستعاضة عن ذلك بخط بديل عن طريق الأردن.
للآن، ومع أنّ كثافة العمليات هي في غزة، ويُدفع ثمنها بدماء أهالي غزة، إلا أنّ عقدة الصراع كلّه في مصر وبيد مصر: هل تفتح حدودها وترضى بتدفّق اللاجئين تمهيدا لتفريغ غزة وتوطين سكانها في سيناء، أم تبقى مصر مصرّة على موقفها الرسمي المُعلن حتى هذه اللحظة؟!
بيت القصيد هنا، مَن الذي يستطيع أن يضمن ردّ فعل الجيش المصري والدولة المصرية "العميقة"؟!
هناك محاولات لإقناع مصر بالإغراء وبالتي هي أحسن: توطين أهالي غزة في سيناء مقابل شطب الديون.
وربما في الأيام القادمة تتم محاولة لعب ورقة الإرادة الشعبية: بيان من الأزهر وسائر المرجعيات الدينية يطالب بفتح الحدود واستقبال الأشقاء الفلسطينيين باسم اللحمة الإسلامية ووحدة الوطن والدين، ومسيرات مليونية "مسرحية" تجتاح المدن المصرية تطالب بفتح الحدود واستقبال الأخوة الفلسطينيين الذين لم يعد هناك مجال للصبر على القتل الوحشي والدمار الهمجي الذي يتعرّضون له أكثر.. وبعدها لكل حادث حديث!
فإذا لم تنجح هذه الطريقة أو تلك، فليس مستبعدا أن نجد أنفسنا أمام أحد التحليلات التي قد يراها البعض مستبعدة و مجنونة: عدوان ثلاثي جديد على مصر إسرائيلي أمريكي بريطاني من أجل فرض أمر واقع جديد في سيناء.. ومن ثم نفاوض!
بالنسبة لإيران (وحزب الله) فمن الواضح أنّها لها حساباتها ومصالحها ومكتسباتها التي لا تريد أن تغامر بخسارتها، لذا فهي تتعامل مع ما يحدث في غزة منذ اليوم الأول بتلكك، وعلى طريقة "تعا ولا تجي"..
وبالنسبة لسوريا فمن الواضح أنّ النظام السوري "المُمانِع" منذ أعاد العلاقات مع النظام الإماراتي "المطبّع" قد دخل ضمنيا أو من تحت لتحت على خط تسوية وصلح مع "إسرائيل" بوساطة إماراتية، والمسألة هي مسألة وقت وكمون وانتظار لحين نضوج الطبخة وتوفّر الظروف المناسبة لخروجها إلى العلن!
وأولا وأخيرا فإنّ الإيراني والسوري (وبالمثل التركي) لا يستطيعان الخروج خارج إطار مصالح الحليف الروسي وأولوياته الإستراتيجية في المنطقة، وهذا الحليف الأكبر الروسي سبق له وأن أرسى "قواعد الاشتباك" مع الخصم الأمريكي منذ عهد الإدارة الجمهورية السابقة بما يخدم مصالحه الجيوبولوتيكية: لنا الغاز و"حميميم" والساحل السوري على المتوسط غربا، ولكم شرق الفرات بنفطه وقواعده!
وطبعا طالما أنّ هذه المصالح وهذا الفضاء الجيوبولتيكي لم يُمس، فلا مانع لدى روسيا من غضّ البصر عمّا يجري جنوبا في غزّة وسيناء، والاكتفاء بالمناورة والمماحكة والمشاكسة من بعيد لبعيد، خاصة إذا صاحب ذلك ترضيات على شكل رفع اليد وحجب الدعم عن أوكرانيا زيلنسكي التي لن تجد لها بُدّا من الاستسلام والرضوخ لتسوية تكرّس الوضع القائم على الأرض.
بالنسبة للأردن فإنّ ترتيبه النهائي محسوم في المخيال الأمريكي والصهيوني منذ وقت طويل: وطن بديل لمن يعيشون على ترابه من فلسطينيين، يُضاف إليهم لاجئو المخيمات الفلسطينية في لبنان وسوريا، وأصحاب الملاءة المالية من عرب الـ 48 الذين بدأ بعضهم بالفعل بتملك شقق وعقارات لهم في الأردن.
وبالنسبة للضفة الغربية فإنّ ما اقتطعته وما ستقتطعه إسرائيل هو لإسرائيل، والبقية هو أراضٍ أردنية حتى من دون "كونفدرالية"، إذ يكفي أن يخرج علينا أحدهم بفتوى قانونية تحظى بمباركة أممية أنّ "فك الارتباط" بين الأردن والضفة غير دستوري وغير قانوني لتعود الضفة للإدارة الأردنية.
وعمليا، أجهزة الأمن الفلسطينية شكلا وتنظيما وهرمية وتكنيكا هي نسخة (copy) عن أجهزة الأمن الأردنية التي درّبتها.
وجميع برامج الهيكلة والحوكمة والتطوير المؤسسي والتشريعي والحوسبة والأتمتة التي طُبّقت في الأردن خلال العشرين سنة الماضية بالتعاون مع أو من خلال ما يسمّى "المجتمع المدني" وبدعم من الجهات والدول الغربية المانحة.. هي نفسها التي نُفّذت في مناطق السلطة الفلسطينية، والمسألة لا تستدعي أكثر من "كبسة زر" حتى تشبك جميع المؤسسات الرسمية على جانبي النهر مع بعضهما البعض دون أن يتأثر أو يتغير سير العمل بمقدار أنملة!
والمحطات الإعلامية العصرية الاحترافية الجذّابة المستقلة في الأردن، قد عوّدت الجمهور الأردني بوعي أو دون وعي منذ تأسيسها، على التعامل مع أخبار الضفة الغربية تحديدا باعتبارها أخبار "محليات"، ليس من الناحية السياسية فقط، بل في شتى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخدمية، أو حتى على مستوى برامج كوميدية خفيفة لنكت الشوارع!
في الخلاصة، هذا العجوز الخرف المسمّى "بايدن" ليس خرفا تماما، وهو بزيارته الماكرة إلى المنطقة أتى ليعلن تدشين مرحلة خبيثة جديدة من مراحل الصراع، ولقرع طبول حرب يُراد لها تغيير وجه المنطقة وإعادة ترتيبها بما يخدم مقتضيات المرحلة المقبلة، بما في ذلك إعادة ترتيب الكيان الصهيوني نفسه ودوره الوظيفي في المنطقة!
ولكن لا "بايدن"، ولا الإدارة الأمريكية، ولا الغرب، ولا شركات الغاز والنفط، ولا المجمع الصناعي العسكري، ولا شبكة البنوك وشركات التصنيف الائتماني والشركات العابرة للقارات التي تبتزّ العالم وتتحكّم به، ولا النظام الرأسمالي الإمبريالي الصهيوني العالمي.. ليسوا جميعهم آلهة يخلقون الواقع كما أرادوا وأربابا يشكّلون العالم وفق مشيئتهم المطلقة!
هم دهاة يخططون، وهم متوحشون لا يرحمون ولا يتوانون عن شيء، وهذا ما يخططون له، وهذا ما يضمرونه، ولكن القول الفصل أولا وأخيرا هو للناس والشعوب والجيوش على الأرض، وفي السياق الحالي لمصر والشعب المصري والجيش المصري أولا، ثم أهالي غزّة والمقاومة وعموم الشعب الفلسطيني ثانيا، ثم الأردنيون بجميع عشائرهم ومكوّناتهم والجيش العربي ثالثا، ثم لبنان والمقاومة اللبنانية والشعب اللبناني رابعا، ثم سوريا وإيران وتركيا خامسا.. وهكذا تباعا الأقرب فالأقرب والأبعد فالأبعد!
"ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"!