عن "الرواية الرسمية" وحرب الإعلام
كمال ميرزا
جو 24 :
في الفيزياء لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه، هذه القانون معروف للجميع، ولكن ما يفوت الأغلبية أنّ "رد الفعل" هذا يكرّس الفعل الأصلي ومصدره.
مثلا: عندما يقوم الصاروخ بنفث ناره ودخانه وسخامه إلى الأسفل، فإن ردّ الفعل هو الذي يجعل الصاروخ، مصدر النار والدخان والسخام، يرتفع إلى أعلى، بينما يبقى "رد الفعل" قابعا مكانه في الأسفل!
ماذا لو طبقنا هذا الكلام على الإعلام والدعاية الإعلامية،،
الدعاية الإعلامية الحديثة لا تقوم على محاولة إقناع الناس بصحة وصدق روايتي وسرديتي للأحداث، و/أو محاولة تكذيب وتفنيد رواية وسردية الخصوم.
الدعاية الإعلامية الحديثة تقوم على "موضعة" روايتي وسرديتي الخاصة (كما تتموضع السلعة في السوق)، بحيث تكون هي السردية الرئيسية أو "الرسمية" أو "المرجعية" حيال الأحداث، والتي تُقاس إليها وتقارن بها بقية الروايات والسرديات.
أي أن أكرّس روايتي وسرديتي باعتبارها "الفعل"، وبقية الروايات والسرديات هي "ردّ الفعل".
وفق هذا المنظور لا داعي لأن تكون روايتي صحيحة أو صادقة أو محكمة أو متينة بالضرورة، ولا يهم إذا ما كانت رواية الخصم صحيحة وصادقة ومحكمة ومتينة.. فطالما نجحت في جعل روايتي هي أساس الكلام والمقارنة، فأنا المنتصر، وقوة ومتانة الرواية المضادة (رد الفعل) ستخدمني أنا أكثر مما ستخدم أصحابها.
ومع أنّ المقاومة قد استطاعت منذ اللحظة الأولى أن تسلب العدو المبادرة، وأن تكون هي "الفعل"، وكلّ ما يقوم به العدو منذ تلك اللحظة هو "ردود أفعال"، إلا أنّ الحال على جبهة الحرب الإعلامية والدعائية مختلف للأسف.
جريمة قصف المستشفى المعمداني هي مثال عملي على الكلام أعلاه.
الأصل أنّ الرواية الأساسية والمرجعية هنا هي أنّ الكيان الصهيوني الغاشم قد قام بقصف المستشفى (الفعل).
وإنكار الكيان لهذه الجريمة ومحاولته إثبات ذلك هو ردّ الفعل الذي يُفترض أن يصدر عنه ويركّز عليه.
لكن الكيان والإعلام المساند له كان أخبث من ذلك، فهو لم ينجرف ويضع نفسه في خانة "رد الفعل"، بل تدارك الأمر، واحتفظ بالمبادرة في يده، وجابه الفعل بفعل آخر وليس برد فعل، وذلك عندما اتهم المقاومة بأنّها هي التي قصفت المستشفى بدلا من الإنكار.
وعندها للأسف، فإنّ إعلامنا قد ابتلع الطعم، وبادر لتكذيب وتفنيد هذه الرواية ومحاولة إثبات عكسها، أي تحوّل مباشرة إلى موقع رد الفعل، مكرّسا اتهام العدو للمقاومة باعتباره هو الرواية الرسمية والمرجعية، الأمر الذي فرّغ وهوّن وضيّع الفعل الحقيقي الأصلي والجريمة الأصلية: قيام الكيان بقصف المستشفى!
هذه اللعبة الإعلامية الخبيثة لا يمارسها إعلام العدو فقط، بل تمارسها وسائل إعلامنا بحقنا من حيث تدري ولا تدري ليل نهار، وذلك حين تستنفد جلّ وقتها في بثّ أخبار العدو، وتصريحاته، وأفعاله، وتحليلات وتعليقات الخبراء على هذه الأخبار والتصريحات والأفعال.. في حين لا يتم الإتيان على ذكر أخبار وتصريحات وأفعال المقاومة إلا عَرَضا، بما يكرّس أنّ العدو هو صاحب المبادرة على الأرض وليس المقاومة.
قد يجادل البعض أن أخبار وتصريحات وأفعال المقاومة قليلة ومتباعدة نسبيا قياسا برواية العدو، ولكن ما المشكلة، الأخبار ليست مسلسا دراميا تستعيض به عن المسلسل التركي الذي منعتك الأحداث من متابعته!
والأخبار ليست "فُرجة"..
والأخبار ليست "سلعة استهلاكية" و"تسالي"!
اكتفِ من الأخبار بما يصدر عن المقاومة، واجعلها مسطرتك ونقطتك المرجعية لذلك النهار، واكتفِ من أخبار العدو بعناوينها المقتضبة وشريط الأخبار، وقارنها وقسها إلى روايتك المرجعية، وباستثناء ذلك لا تبقَ جالسا طوال الوقت أمام شاشات الأخبار التي تستنزفك وتضعفك وتهزمك معنويا، واذهب وافعل شيئا مفيدا، فهذا يخدم المقاومة أكثر من رباطك المدمّر أمام الشاشة!