jo24_banner
jo24_banner

"توشيبا" و"سلام الخذلان"!

كمال ميرزا
جو 24 :


زمان، ونحن أطفال، كانت "كامب ديفيد" هي أكبر خيانة للقضية الفلسطينية والأمّة العربية، هكذا كانوا يدرسوننا، هكذا كان يلقننا المعلمون قبل أن يصبح لدينا مؤسسات ومبادرات عصرية وحداثية ومدنية لتطوير المناهج والتعليم، وهذا كان المزاج العام الشعبي والرسمي على حدّ سواء!

للدقة كانوا يستخدمون مصطلح "السلام المنفرد" مع "إسرائيل"، واحتاج الشخص سنوات وسنوات حتى يكبر وينضج وتتسع مداركه حتى يعي أن اعتراضهم وقتعا كان على "المنفرد" وليس السلام!

وفي عام 1990 استدعى الأمر كسر "العراق العظيم"، العراق الذي انتصر كما أخبرونا في "الحرب العراقية الإيرانية"، العراق حارس "البوابة الشرقية" للوطن العربي كما كانوا يقولون، العراق خامس أقوى جيش في العالم كما كانوا يُشيعون، عراق "المدفع العملاق" وصواريخ "سكود" وقصف "تل أبيب".. وذلك من أجل جرّ العرب إلى طاولة مؤتمر مدريد للسلام السنة التالية، أو على الأقل تبرير هذا التقهقر والنكوص أمام الشعوب العربية الخارجة من صدمة ما حدث للعراق وفي العراق.

وما كادت تمرّ ثلاث إلى أربع سنوات، حتى تمّ توقيع سلامين منفردين وليس سلاما واحدا: "اتفاقية أوسلو" وإتفاقية "وادي عربة"، ولكن دون كلّ خطاب التجريم والتخوين والمقاطعة الذي صاحب سلام الرئيس المصري "المؤمن" أنور السادات، اللهم إلا من صوت هنا ومماحكة هناك.

وفي عام 2002 انتقل زمام المبادرة إلى العرب، وتقدّموا هم بمبادرتهم للسلام، والتي استدعت لتهيئة الظروف المواتية لها القضاء على ما تبقى من العراق في السنة التالية عبر "الاحتلال الأمريكي المباشر"، وذلك بعد أكثر من عشر سنوات من الحصار والتجويع والقتل البطيء والنخر الممنهج!

ومنذ ذلك التاريخ انقسم العرب والشرق الأوسط فجأة، أو بعبارة أدق "على عينك يا تاجر"، بين تيارين: تيار "الاعتدال"، وتيار المقاومة!

هذا الانقسام تزامن مع تسيّد ثيمة "الإرهاب" الخطابين الرسمي والإعلامي بشكل ابتزازي مُزاوِد لا يخلو من إرهاب هو الآخر.

ابتدأ الأمر بمجاهدي الأمس الذين جاهدوا جوار أمريكا والغرب في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي، والذين أصبحوا بين ليلة وضحاها "مجرمين" و"إرهابيين" و"متطرفين" و"الخطر الأخضر" الذي يتهدد العالم والبشرية ومستقبل الحضارة الإنسانية (حضارة الرجل الأبيض طبعا)!

ثم أصبحت الحراكات الجهادية تفرّخ هنا وهناك، دون أن يعرف أحد "قرعة أبوها من وين"، ومَن الذي يقف وراءها، ويموّلها، ويمدّها بالسلاح والتدريب والدعم اللوجستي.

والغريب أنّ هذه الحركات الجهادية التي تمّ شيطنة وتجريم وتحريم كلمة "جهاد" و"إسلام" و"إسلامي" بذريعتها، قد قاتلت وفتحت جبهات قتال في أربع جهات الأرض، ولكنّها لم تطلق يوما طلقة واحدة على الكيان الصهيوني من أجل تحرير فلسطين، ولم يُعرف عنها أنّها حاولت ذلم أو فكرت به!

ثم جاء "الربيع العربي" الذي أحيا جميع الهويات الفرعية والعنصريات الكامنة في المنطقة من أجل "تجزئة ما هو مجزّأ وتفتيت ما هو مفتت"، تجزئة وتفتيت الوعي والإدراك والحالة النفسية قبل تفتيت الأرض والبلدان.

وفي غمرة هذا الربيع وعنصرياته تم تكريس ثيمة "الإرهاب" لتلتصق نهائيا بكل ما هو مبدئي ورافض ومُقاوم، مستفيدين من مقاومة "الجعجعة" و"البرجماتية" في تشويه صورة المقاومة الجذرية "الحقيقية"!

كما تمّ استغلال هذا الإرهاب "الإسلامي" لتكريس فكرة "يهودية" الدولة الإسرائيلية (دين مقابل دين)، بطريقة تشبه كيفية اتخاذ القومية العربية سابقا ذريعة لإقامة دولة "قومية" لليهود في فلسطين (قومية مقابل قومية).

والمفارقة الساخرة، والمضحك المبكي، أنّ الأنظمة العربية طوال هذه المدة هي التي كانت متمسكة بالسلام ومبادرة السلام، و"باصمين ع طول الخط" تحت مسمّى "حل الدولتين"، وينتظرون بفارغ الصبر.. في حين أن قوة الممانعة "الفعلية" الوحيدة في المنطقة كانت الكيان الصهيوني المحتل بيمينه المتطرّف، والذي تتعدى أطماعه ومخياله التوراتي والتلمودي حدود خط الهدنة لعام 1967، وأي حدود نصّت عليها أو مجرد تقترحها أي اتفاقيات وتفاهمات وقرارات أممية أخرى.

إلى أن وصلنا إلى 7 أكتوبر الحالي، و"طوفان الأقصى"، والذي أعطى العرب والمسلمين فرصة تاريخية لقلب الطاولة على الجميع، وعكس هذا المسار الانهزامي الانسحاقي المتردّي لتاريخهم المعاصر، وتطهير أنفسهم من أدران "السلام المدنّس" التي علقت بهم على حد تعبير "أمل دنقل".

ولكن عوضا عن استثمار هذه الفرصة، أو كأضعف الإيمان عدم التدخّل من أجل إضعافها أو المساهمة في تبديدها، ها هم العرب ينتقلون من خانة المدعوين إلى السلام، ثم المبادرين إلى السلام، ليصبحوا هم "رعاة" السلام وسدنته بينما إخوانهم في غزة يتعرضون للإبادة الجماعية على مرمى حجر منهم!

هذا المسار السريالي والمخزي في آن واحد، يُذكّر بإحدى اللوحات الدرامية في مسلسل "بقعة ضوء" لعب بطولتها الفنان السوري "سامر المصري".

تدور قصة اللوحة عن رجل درويش هضيم الجناح يعمل حارسا في إحدى المؤسسات الحكومية.

هذا الحارس المسكين "مقطوع من شجرة"، وليس لديه "لا عيّل ولا تيّلا" ولا أقارب ولا أصدقاء.

في إحدى الأيام قرر مدير المؤسسة الحكومية مكافأة هذا الحارس المتفاني وصَرَف له مكافأة مالية مجزية.

الحارس الذي ليس لديه أي علاقات أو هوايات سوى هواية الاستماع إلى الراديو لم يعرف ماذا يصنع بالنقود، لذا قرر أن يصرفها لشراء جلسات علاجية لدى أحد الأطباء النفسيين.

الحارس لم يكن بحاجة إلى علاج، كل ما هنالك أنّه كان بحاجة لأي إنسان يستمع إليه، لذا صرف كامل مكافأته حتى يستمع إليه الطبيب النفسي.

في غمرة هذه الحبكة الكوميدية السوداء، كان الطبيب النفسي قد طلب من الحارس أن يحدثه عن حياته، فكان جواب الحارس أنّه قد عاش حياته "ثلاثة توشيبا".

الحارس كان يشير إلى أنّه عاش حياته وحيدا، ولم يكن له أي هواية أو مؤنس سوى "الراديو" ماركة "توشيبا" الذي يستمع إليه طوال الوقت، وأنّه خلال مسار حياته قد تعاقب عليه ثلاث موديلات من راديو "توشيبا"، وبالتالي فهو قد عاش حياته "ثلاثة توشيبا"!

بالمثل، عندما أتأمل أجد أنّني أنتمي إلى جيل قد عاش حياته "ثلاثة توشيبا"، ثلاثة "موديلات" من السلام: "سلام الشجعان"، و"سلام العربان"... وحاليا "سلام الخذلان"!

ما يهم هنا، أنّ جميع هذا الكلام لا يغبّر على بسطار "مناضل" أو "مقاوم" أو "مجاهد"، فردا أو شعبا، نذر نفسه من أجل فكرة وقضية وعقيدة يؤمن بها، وأنّه أيّا كانت صيغة السلام التي تخيّرها وسيتخيّرها المهزومون والمُرجِفون والمتواطئون لأنفسهم وشعوبهم، فهي لا تخرج عن إطار قوله تعالى:

"ليميز الله الخبيث من الطيّب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنّم أولئك هم الخاسرون" الأنفال - 37.
 
تابعو الأردن 24 على google news