احذروا "المطالب الشعبية".. احذروا "الطابور السادس"
كمال ميرزا
جو 24 :
بالنسبة لأهالي غزة فقد تعدّوا عتبة الألم والخوف من زمان، وما عادت تعني لهم الأرقام شيئا، واحد.. عشرة.. مائة.. ألف.. لا يهم!
كلّ شخص في غزة تصالح مع فكرة أنّه سيكون الشهيد التالي، وكلّ أهالي غزة تصالحوا مع فكرة أن بيوتهم وأرواحهم وجثثهم وأشلاءهم هي الإسهام الذي يمكن أن يقدموه لدعم "المجهود الحربي" ونصرة المقاومة.
لذا زيادة وحشية وهمجية القصف والقتل والإبادة لم يعد هدفه تخويف وترويع أهالي غزة، بل بات هدفه تخويفنا وترويعنا نحن "المتفرّجين" القابعين وراء شاشاتنا.
وعنده سيغدو فتح المعابر والسماح بنزوح أهالي غزة "مطلبا شعبيا" للجماهير المصدومة والمذهولة من هول ما ترى، والتي "ملّت" في نفس الوقت من حالة الترقّب والتوجّس واللايقين ومتابعة ما ترى.. وليس مخططا ومؤامرة مبيّتة منذ اليوم الأول!
أول الرقص حنجلة، في البداية يتم فتح المعابر لخروج المصابين، ليس كلّهم، ولكن عدد محدود لكي يكون هذا بحدّ ذاته موضوعا للجدل والإلهاء، لماذا هذا المصاب وليس هذا؟ مَن الذي يحدد الأولويات والأعداد؟ ولماذا لا يتم زيادة الأعداد؟ ومَن الذي سيتولّى الإشراف والمتابعة؟
ثم يتم السماح بخروج الأجانب ومزدوجي الجنسية، ثم الجدل والإلهاء مرّة أخرى، لماذا هؤلاء فقط؟ أليس الغزاويون بشرا أيضا؟ ما هذه "العنصرية"؟
ثم يصبح المطلب السماح بخروج الجميع، مع زيادة جرعة القتل والدمار والمناظر المروّعة، والنداءات والصرخات والاستغاثات، وخروج المستشفيات تباعا عن الخدمة بسبب عدم السماح بدخول ولو قطرة وقود واحدة برغم جهود الإغاثة الاستعراضية التي يتم القيام بها.
بل إنّ هناك دعاية حثيثة على مدار الأسبوع تحاول إضفاء شرعية مسبقة على قصف المستشفيات والمدارس والمساجد في غزة إذا اقتضت ضرورات "دفاع إسرائيل عن نفسها" ذلك، بحجة استخدام المقاومة هذه المرافق سواتر لإخفاء وتمويه وحماية مراكز قيادتها.
وعندها لا عجب إذا بدأنا نرى الاعتصامات والمظاهرات تجوب الطرقات والميادين وصولا لـ "المليونيات"، حتى في عواصم غربية كانت تحضر ذلك حتى الأمس وتقاومه بالقوة، ولكن ليس مطالبة بنصرة غزة، وقطع العلاقات، وإعلان الحرب على العدو الصهيوني، ومحاسبة مجرمي الحرب.. ولكن من أجل المطالبة بفتح المعابر واستقبال "إخوتنا" النازحين.
وسرعان ما ينضم إلى هذه المطالب "المشاهير" و"الفنانون" و"المؤثرون" الذين صمتوا طويلا أو كانت مواقفهم السابقة "تحسيسا"، مع خروج متموّلي ما يسمّى "منظمات المجتمع المدني" من جحورهم التي ظلوا قابعين فيها طوال الشهر الماضي!
وكتمهيد استباقي، طالعتنا وسائل الإعلام قبل أيام بخبر مفاده أنّ هناك حوالي (350) مسؤولا في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) قد وجّهوا "عريضة" تطالب بوقف الحرب في غزة، وستكون سذاجة في ضوء السياق الحالي النظر إلى هذه المطالبات كـ "صحوة ضمير" مفاجئة هبطت على هذه الوكالة التي تعتبر أحد الأذرع التنفيذية للخارجية الأمريكية والأجهزة الأمنية وراءها، والمعنية بحشد وتعبئة "الطابور السادس"، أي ما يسمّى مؤسسات "المجتمع المدني"!
وطبعا هناك الفتاوي المعلّبة والجاهزة تحت الطلب لعلماء السلطان، وشيوخ الفضائيات، وشيوخ الـ (NGOs).
وعندها ستستجيب السلطات فجأة لـ "المطالب الشعبية".
ولن يجرؤ أحد على التشكيك بمواقف السلطات، ولن يستطيع أن يتهمها بالتخاذل، أو التهاون، أو التفريط بالأمن القومي الذي كانت تتحجج به بالأمس لتبرير إحكام الحصار والوقوف موقف المتفرّج، أو اتهامها بالتواطؤ مع مخططات التهجير وتصفية القضية الفلسطينية.
وعندها سيغدو كل شخص يطالب أهل غزة بالصمود والبقاء في أرضهم هو الوحش، وهو المجرم، وهو الذي يريد لأهل غزة أن يبادوا، وهو المتاجر بدماء الأبرياء، وهو الخائن والعميل والمندس وصاحب الأجندة الذي يريد أن يفسد ويُضعف ويشق صف اللُحمة الوطنية بين "القيادات" و"الإرادة الشعبية"؟!
لكن القرار أولا وأخيرا في كلّ هذا هو بيد أهالي غزة، وبيد الفلسطينيين، ولا أحد يستطيع أن يلومهم أو يزاود عليهم مهما كان قرارهم.
والذي يريد أن ينصر شخصا أو يغيثه فإنه ينصره ويغيثه فيما يحدّده ويطلبه هو، لا فيما أحدده له أنا، أو فيما أمليه عليه أنا، أو فيما ابتزّه وأطبق الخناق عليه من أجله بحيث لا يجد له سبيلا وخيارا سواه!
والسؤال، ماذا لو استمر أهل غزة في رفضهم الخروج؟ وأصرّوا على البقاء والصمود ودعم وإسناد أبنائهم وإخوانهم وأقاربهم وأهلهم المقاومين حتى آخر رمق؟
منذا الذي سيجرؤ ويدخل ويجبرهم على الخروج؟ أم أنّ حرب "الإبادة" و"الاستنزاف" عندها ستصبح "مشروعة"، وسيكون الخيار "المُبرر" و"المباح" الاستمرار في القتل والدمار إلى أن يفنى أهل غزة عن بكرة أبيهم ولا يخرج منهم "مْخَبّر"!