أفلام ما بعد محروقة!
كمال ميرزا
جو 24 :
يبدو أنّ هناك التباس لدى المتحدّث باسم جيش الاحتلال الصهيوني، فالصور والفيديوهات التي بثّها يُفترض أن تجعل المشاهد "يصدّق" مزاعم الكيان حول قيام المقاومة الفلسطينية باستخدام المستشفيات والمرافق العامّة لأغراض عسكرية، لا أن يكذّبها من أول نظرة!
لولا العيب لقلتُ أنّ المتحدث باسم جيش الكيان قد تم تجنيده سرّا وهو يعمل لصالح المقاومة، أو أنّ واسطة ما من العيار الثقيل هي التي أتت به هو وأمثاله من محدودي الذكاء إلى مواقعهم ومناصبهم!
لا يُعقل أنّ أكاذيب "كولن باول" وفبركاته قبل حوالي عشرين سنة أمام مجلس الأمن لتبرير غزو العراق، كانت محبوكة ومتقنة فنيّا أكثر من صور وفيديوهات الكيان الصهيوني البائسة!
أين ذهب كل التطوّر في عالم التصوير وصناعة الافلام منذ ذلك التاريخ ولغاية الآن!
مساكين فريق التصوير والإخراج الذين فبركوا هذه الصور والفيديوهات، أولا ظروف الإنتاج صعبة للغاية، وثانيا الوقت ضيق، وثالثا هم لا يريدون أن تكون الصور والفيديوهات متقنة "زيادة عن اللزوم" فتنفضح، وحاولو أن يضفوا عليها لمسة واقعية على غرار برامج (الريالتي شو) الأمريكية فانفضحت أيضا!
لو أردنا أن ندخل في التفاصيل الفنية أكثر، هناك في عالم صناعة الأفلام و"المونتاج" شيء اسمه "التقطيع"، أي تقطيع المشهد أو المقطع إلى لقطات متتالية.
والأصل عند التقطيع وترتيب اللقطات أن تكون متتابعة ومتسقة زمانيا ومكانيا تعطي المُشاهِد إحساسا منطقيا بالانتقال من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) دون فجوات أو فراغات أو إبهام أو التباس.
وفي المقابل، هناك شيء اسمه القفزات، أو الـ (jump cut)، وهي القطعة (cut) التي تنقلني فجأة من مكان وزمان إلى مكان وزمان مختلفين بشكل يقطع انسياب وتسلسل السرد ومنطقيته.
فيديو الناطق باسم جيش الكيان الصهيوني عبارة عن "كمشة" قفزات تم توليفها بطريقة مضحكة ومخزية في آن واحد:
فجأة نحن أمام علبة قواطع كهربائية يمكن أن تكون في أي مكان، وتخرج منها وصلات وأسلاك مثل أي علبة قواطع في العالم..
ثم فجأة نحن على بعد حوالي مائتي متر من "مستشفى الرنتيسي" دون أن حتى أن يظهر المبنى ومحيطه كاملا..
ثم فجأة أصبحنا بقدرة قادر داخل القبو، حيث تنتظرنا الأسلحة "التافهة" الأقرب للعب التي نسي رجال المقاومة أن يأخذوها معهم..
وهكذا دواليك!
القفزات أو (الجمب كت) تعتبر من الأخطاء، بل أخطاء المبتدئين، حتى في عالم صناعة الأفلام الدرامية، أي الأفلام التي كلّها تمثيل بتمثيل، فما بالنا ونحن نتحدث هنا عن فيديوهات "تسجيلية" يفترض أنّها توثّق لحقائق ووقائع ينبغي أن تكون حاسمة وأكيدة ويقينية لا تترك للخصم أي مجال للمراوغة أو الإنكار أو التكذيب!
كان يكفي المتحدث باسم جيش الكيان أن يقف بكاميراه أمام مبنى المستشفى، ثم يبدأ بالاقتراب شيئا فشيئا، ويأخذنا في جولة في أرجاء المكان، ويرينا كلّ التفاصيل التي ينبغي أن نراها لقطة واحدة متواصلة بدون تقطيع أو مونتاج أو لمسات فنية!
مثل لقطات المقاومة: يخرج المقاتل، يرصد الدبابة، يفجّرها، يكبّر ويهلل، ويعود أدراجه... لقطة واحدة متواصلة دون تقطيع!
شيء آخر حاول المتحدث باسم جيش الاحتلال توظيفه في المقاطع التي عرضها اسمه "الإيحاء"، والذي يُعطي إحساسا بـ "وهم الحقيقة".. ولكنه أيضا فشل فشلا ذريعا.
الإيحاء يكون من خلال الكلام المصاحب للصورة البصرية، مثلا في لقطة قواطع الكهرباء عندما قال إنّ هذه الإسلاك الخارجة من علبة القواطع ذاهبة لتغذية نفق تحت الأرض. فعليّا ما تُظهره الصورة لا يثبت ما يقوله، بل إنّ الصورة التي نراها عاجزة حتى عن إثبات أنّ علبة القواطع هذه تعود لـ "مستشفى الرنتيسي" أساسا.
وبالمثل عندما وقف بعيدا عن المستشفى وأشار إلى جزء من واجهة المبنى وقال: "هذا نفق". عمليا لا يوجد في الصورة التي عرضها ما يوحى أنّ ما نراه هو نفق، أو يثبت أنّه نفق، إلا كلامه هو وزعمه هو.. وعلى ذلك قِس.
بل إنّه تحدّث جازما عن وجود نفق يصل بين المستشفى ومدرسة مجاورة، وعرض صورة جوّية وعليها تخطيط يشير إلى موضع النفق ومسار، دون أن يرينا ببساطة هذا النفق!
يبدو أن مدخل النفق مسحور أو عليه "رَصَد" ينبغي فكّه قبل أن يتمكنوا من دخوله!
أو أنّ جنود الكيان الصهيوني لم ينتهوا بعد من حفر هذا النفق حتى نراه في فيديو قادم بأثر رجعي.. ألم يقل أن الموضوع ما زال قيد التحقيق؟!
أمّا أكثر لمسة "مسخرة" في فيديو المتحدّث باسم الكيان فهي الدراجة النارية في القبو! أول ما يتبادر إلى ذهنك عندما ترى الدراجة ذلك المشهد المشهور من مسرحية "العيال كبرت"، عندما قام الفنان الراحل "سعيد صالح" بقيادة دراجة نارية عبر خشبة المسرح وهو ذاهب لمطاردة "الوليّة" التي سيهرب معها أبوه!
عرض مثل هذه الفيديوهات ليس فقط استخفاف بعقول الناس وذكائهم، بل هو مؤشر آخر على غطرسة وعنصرية الكيان الصهيوني وعصابة حربه، فغطرستهم وعنصريتهم هي ما تجعلهم يتعاملون مع الآخرين باعتبارهم أغبياء (كيف لا والآخرين مجرد حيوانات بشرية)، وأنّهم ليسوا مُلزمين حتى بحبك وشدشدة أكاذيبهم ومزاعمهم أكثر، سيما وأنّ حلفاءهم ووسائل الإعلام العالمية التي تنحاز إليهم وتدعمهم، سيتلقّفون هذه المقاطع على عواهلها، وسيتداولونها بأي حال باعتبارها أدلة وبراهين محبوكة كانت أم غير محبوكة!