الحل في "حي الطفايلة"!
كمال ميرزا
جو 24 :
من المعضلات التي تواجه الحِراكات الشعبية للتعبير عن التضامن، أو من أجل المناداة بمطالب معيّنة، كيفية الحفاظ على "الزخم"، خاصة عندما يطول الأمد ويمتدّ الوقت.
في البداية تكون المشاعر متأججة والهمم مشحوذة، وتخرج المظاهرات والمسيرات الكبرى، وتمتد لساعات طويلة، وتصدح الحناجر بهتافات وشعارات تعانق كبد السماء. ولكن مع الوقت تصبح عملية "إدامة" هذا النوع من المظاهرات والمسيرات كمّا ونوعا مسألة صعبة ومتعذّرة من الناحية العمليّة.
البعض يعزو ذلك إلى فتور همّة الناس بكونهم عاطفيين، يسخنون بسرعة، ويبردون بسرعة، ويغلب عليهم طبع "الفزعة"، وسرعان ما يسقطون في "التعوّد" و"اللامبالاة"، أو حتى القنوط في حالة لم يحقق تحرّكهم ثمارا سريعة. ولكن هذا مجرد عامل من العوامل، وهو عامل ثانوي، وليس السبب الرئيسي وراء حالة الخبو والخفوت والبرود.
المشكلة الأساسية هي في الأسلوب نفسه، أسلوب تنظيم مظاهرات ومسيرات كبرى في مواقع وفضاءات عامّة بعينها.. والإصرار على ذلك!
مثل هذه المظاهرات والمسيرات الكبرى ينطبق عليها وصف "فعاليّة"، والفعاليات أدوات مهمة جدا من أجل إيصال رسائل ومعاني سياسية ورمزية معينة، وإعادة التأكيد عليها والتذكير بها.. ولكنها ليست أدوات للتأثير أو الفعل.
ما هي الطريقة إذن للانتقال من "الفعاليّة" إلى "الفعل"، أي من "الاستعراض" إلى التأثير؟
الجواب هو عند أحبّتنا أبناء "حي الطفايلة" ذائع الصيت في العاصمة عمّان!
بالأمس نظّم أبناء الحي مهرجانا تضامنيا مع الأشقّاء في غزة تخللته كلمات ألقاها مجموعة من الشخصيات الوطنية تمّت دعوتهم للمشاركة في المهرجان. وقبل حوالي أسبوعين قام أبناء الحي بإحياء صلاة قيام الليل جماعةً، والابتهال بالدعاء لله تعالى من أجل الأهل في غزّة.
العبرة ليست في طبيعة ومضمون التحرّك بحدّ ذاته، مهرجان خطابي أو صلاة قيام ليل، العبرة في هيكليّة هذا التحرّك وبنيته الاجتماعية.
فسكان حيّ الطفايلة ينطبق عليهم وصف عالم الاجتماع (زيجمونت باومان) باعتبارهم "شبكة كثيفة ومتينة من الروابط الاجتماعية التي تضرب بجذورها في المكان الذي تقيم فيه"، وهذه البنية الاجتماعية - المكانية المتجذّرة هي ما تجعل هذه المجموعة المحدودة من البشر قادرة على الفعل والتأثير، أكثر بكثير ممّن يطلق عليهم عالم الاجتماع (جورج ريتز) وصف "الحشود الاحتفالية"، كأولئك الذين نراهم في المظاهرات والمسيرات الكبرى، والذين قد يجعلون "أماكن الاستهلاك الجمعي" تزدحم بالناس، ولكنّها تبقى خالية من أي "فعل جمعي"، أي تخلو من التأثير!
لو راجعنا تاريخ "حي الطفايلة" لوجدنا أنّ أبناءه لطالما كانوا مؤثّرين وناجحين في أيّ تحرّك جماعي يقومون به، بغض النظر عن موضوع هذا التحرّك أو المطالب التي يطالبون بها.
ولو استعرضنا تجارب أردنية سابقة لحِراكات شعبية استطاعت تحقيق النجاح، وتلبية الحدّ الأقصى الممكن لمطالبها، لوجدنا أنّ هذه الحِراكات ينطبق عليها نفس التوصيف.
فهناك على سبيل المثال اعتصام طلاب الجامعة الأردنية ضد قرار رفع الرسوم الجامعية: شبكة كثيفة ومتينة من العلاقات الاجتماعية (طلاب الجامعة أنفسهم دون السماح بتدخّل ومشاركة أي أشخاص من خارج الجسد الطلابي)، وارتباط جذري بالمكان (حرم جامعتهم الذي اعتصموا داخله، وعدم محاولتهم نقل تحرّكهم إلى خارج أسوار الجامعة).
وبالمثل اعتصام المعلمين الأول، كلّ معلم داخل صفه ومدرسته، ضمن قريته أو بلدته أو مدينته، دون محاولة نقل اعتصامهم ومطالبهم إلى الشارع أو إلى العاصمة عمّان.
بل في المرّة الثانية، عندما حاول المعلمون "مواكبة الموضة"، ونقل اعتصامهم من سائر محافظات ومناطق المملكة إلى العاصمة عمّان، كان سهلا على السلطات إفشال هذا التحرّك وتشتيته وتفريغه.
ونفس الكلام ينطبق على "حراكات العشائر" أو "حراكات المحافظات"، ما بين بقائهم في مناطقهم، وما بين محاولتهم الانتقال إلى العاصمة عمّان أيام ما سُمّي اعتصام الدوّار الرابع.
ميزة هذا الشكل من الحراك الشعبي المبني على الشبكات الاجتماعية المتينة المرتبطة بالمكان أنّه:
- قابل للإستدامه والاستمرار لفترات زمنية طويلة دون فقدان الزخم وتبدّد المطالبات.
- تصعب شيطنته، وتشويه صورته، والتشكيك بأصحابه ونواياهم ودوافعهم وانتماءاتهم.
- أسهل للضبط والربط وتلافي أي مظاهر للفوضى وسوء التنظيم.
- يصعب اختطافه من قبل "الولدنة"، أو اختراقه من قبل "المندسّين".
- يُسهّل على المشاركين عملية المشاركة والمواظبة (تخيّل أنّك قادم للمشاركة في مظاهرة من محافظة أخرى أو منطقة بعيدة وعنّت عليك الحاجة لدخول دورة المياه)؟
- لا يرهق الأجهزة الأمنية ويضطرها لاستنفار وتحريك أعداد كبيرة من منتسبيها، وهو ما قد يتسبب لمسؤولي هذه الأجهزة بضيق واستفزاز يفوق حتى طبيعة المطالب المطروحة والشعارات المرفوعة.
أمّا النقطة الأهم، فهي أنّ هذا الشكل من تنظيم وتأطير العمل يتيح للحِراك الاجتماعي أن يتحوّل إلى "حركة اجتماعية"، وذلك من خلال تلبية تلك "التوليفة الابتكارية" التي حدّدها (تشالرز تلي) للحركات الاجتماعية، والمكوّنة من ثلاثة عناصر أساسية هي: الحملة، ذخيرة الحركة الاجتماعية، عروض الوقفة.
بل إنّ من أهم عوامل صمود غزّة لغاية الآن في وجه حرب الإبادة الجماعية والتهجير التي يشنّها الكيان الصهيوني، هي أنّ المقاومة والأهالي يشكّلون فيما بينهم ومعا شبكة اجتماعية متينة وكثيفة من العلاقات التي تضرب بجذورها في الأرض مجازيّا وحرفيّا!
بكلمات أخرى، المطلوب على صعيد الحراك الشعبي والجماهيري هو "قليل دائم خير من كثير منقطع"!
هل يعني هذا أنّ أسلوب المظاهرات والمسيرات و"الفعاليات" الكبرى هو أسلوب فاشل أو غير مرغوب؟
الجواب طبعا لا، مثل هذه الفعاليات مهمة من فترة لفترة (من الجمعة للجمعة مثلا) من أجل معانيها ودلالاتها "الرمزية"، وإعادة التأكيد على التضامن الشعبي الأكبر والمطالب الشعبية الكبرى.
ولكن ما بين هذه الفعاليات الكبرى، المطلوب يوما بيوم هو المواظبة على سلسة متواصلة ومستدامة من التحرّكات الأصغر التي يقوم بها الأفراد على مستوى شبكاتهم الاجتماعية المتينة في أماكنهم، أي في المكان الذي ترتبط به كلّ شبكة من هذه الشبكات الاجتماعية بشكل جذريّ (على مستوى الشارع أو الحارة أو الحي أو المنطقة أو مكان الدراسة أو العمل.. الخ).
وهنا يمكن أن تلعب المؤسسات الاجتماعية "الوسيطة" التقليدية المتواجدة على مستوى المجتمعات المحليّة دورا تنظيميّا وتوجيهيّا مهمّا، يجعل منها حتى في عيون السلطات جزءا من الحل وليس جزءا من المشكلة، مثل المساجد والكنائس والمدارس والأندية والجمعيات الخيرية والمنتديات الثقافية والدواوين العائلية والعشائرية وكلّ ما هو في حكمها.