المُضحك المُبكي في الدعوة إلى الإضراب العام!
كمال ميرزا
جو 24 :
من المفارقات المُضحكة المُبكية أنّ هناك من كان ينتظر أن تعلن الحكومة رسميا يوم الاثنين يوم إضراب عام إستجابة للدعوة التي تمّ إطلاقها بين جميع دول وشعوب العالم!
والذي يعمل في شركة أو مؤسسة ينتظر أن تعلن إدارة شركته أو مؤسسته ذلك.
وطلاب الجامعات ينتظرون أن تعلنه رئاسة الجامعة.
وطلاب ومعلمو المدارس ينتظرون أن تعلنه إدارة المدرسة.
وهكذا دواليك!
لو أعلنت هذه الجهات يوم الاثنين يوم إضراب لما عاد إضرابا، بل لأصبح عطلة رسمية!
جميع هذه الجهات تمثّل "السلطة"، والأصل أنّ الإضراب هو سلوك ضد السلطة، وكلمة "ضد" هنا ليست بالمعنى الخصامي أو الصدامي، بل بمعنى عكس أو غير، أي أنّه فعل تدعو له وتتبناه وتقوم به جهات أخرى غير السلطة.
بكلمات أخرى، هو سلوك تقوم به القوى والفعاليات الشعبية أو المجتمعية أو الأهلية، أو ما يحلو للجميع تسميته في الأدبيات الحديثة والخطاب الحديث بـ "المجتمع المدني"!
الأصل إذا كان الموظف منتسبا إلى نقابة، أن تعلن نقابته الإضراب، ثم يمتثل هو لقرار النقابة..
وإذا كان العامل ينتمي لإتحاد عمّالي، أن يعلن إتحاده الإضراب، ثم يمتثل هو لقرار الإتحاد..
وإذا كان هناك في الشركة أو المؤسسة لجنة أو جمعية عمّالية، أن تعلن هي الإضراب، ثم يمتثل الموظفون.
وإذا كان هناك في الجامعة إتحاد طلبة أو ما يكافئه، أن يعلن إتحاد الطلبة الإضراب، ثم يمتثل بقية الطلاب.
وإذا كان هناك في المدرسة لجنة نقابية، أو لجنة عاملين، أو حتى مجلس للآباء والمعلمين، أن يعلن هو الإضراب، ثم يمتثل البقية!
وذات الأمر ينطبق على "غرف الصناعة" و"غرف التجارة" وسائر الكيانات والهياكل المؤسسية المشابهة.
هذا الفهم العجيب لكيفية القيام بـ "إضراب" مؤشر لأي مدى أصبحت ثقافة المجتمع ومؤسساته المدنية "سلطوية".
سلطوية بالمعنى "المعرفي" للكلمة، أي أنّها تفكر بعقلية ومنطق السلطة، بدلا من أن تمثّل وجهة النظر الأخرى التي توازن منظور السلطة، وتحاوره وتصححه وتكمّله وتثريه، وتسانده أو تعارضه حسب مقتضى الحال.
وسلطوية بالمعنى المُزاوِد للكلمة، بمعنى أنّ القائمين على مؤسسات المجتمع المدني (شأنهم شأن بقية المسؤولين) باتوا يجتهدون من تلقاء أنفسهم في توقّع ما تريده وما لا تريده السلطة، وما يرضيها وما يستثير حفيظتها، ويتصرفون على هذا الأساس من دون حتى أن يطلب منهم أحد ذلك.
وسلطوية بمعنى أنّها متواكلة على السلطة، وتعتمد عليها في كلّ شيء، وتنتظر منها دائما أن تخبرها ما هي الخطوة التالية التي ينبغي القيام بها بدلا من أن تشور هي على السلطة أو تتخذ المبادرة.
قد يظنّ البعض أنّ هذا الواقع مثالي بالنسبة لأي سلطة في العالم، وتعبير عن مدى قوّتها ومتانتها وتحكّمها بكل مفصل من مفاصل الدولة والمجتمع ومسار حركتهما.
ولكن حقيقة الأمر لا، فمثل هذا المجتمع المدني "المتواكل" يغدو عند لحظة معينة "عبئا" على السلطة، و"ورقة محروقة" لا يمكن التعويل عليها أو الاستفادة منها!
ولعل السياق الحالي مثال فوق العادة على هذا الكلام؛ فالموقف الرسمي الأردني الذي يتخذ نبرة تصاعدية ضد حرب الإبادة والتهجير التي يشنّها الكيان الصهيوني على الأهل في فلسطين، يحتاج إلى موقف شعبي يسنده لا يقل عنه صرامة من أجل إيصال رسالة قوية لأصدقاء الأردن وخصومه على حدّ سواء.. ولكن مهما بلغت أهمية هذا الأمر فإنّه لن يصل حدّ أن تأتي السلطة بنفسها وتقول للناس: أضربوا.. اعتصموا.. تظاهروا!
أقصى ما تستطيع أن تفعله السلطة هنا هو أن تخفف قبضتها قليلا، أو تتغاضى قليلا، أو تغض الطرف قليلا وتتظاهر بالنظر إلى الناحية الأخرى!
طبعا منظومة السلطة في الأردن ليست بريئة تماما هنا، فأسلوب الاحتواء الناعم غالبا، والخشن أحيانا، الذي اتبعته مع قوى وفعاليات ومؤسسات "المجتمع المدني" على مدى السنوات الماضية.. قد أوصلته إلى هذه الحالة من الضعف والهزال وانعدام المعرفة بأبسط أبجديات العمل العام والحراك العام.
والسلطة بحاجة ماسّة لإعادة النظر في أسلوب تعاملها مع هذا "المجتمع المدني" بكون المجتمع المدني القوي والحقيقي هو أحد مقومات قوة أي دولة بجميع مكوناتها. والأهم، حتى لا يُفسح الفراغ الذي يتسبب به المجتمع المدني الضعيف المجال أمام البعض من أجل محاولة ملء هذا الفراغ باجتهادات شخصية، أو بالفوضى، أو بأساليب ومُقاربات وأجندات لا تصب بالضرورة في مصلحة المجتمع والدولة!