الثورة المصرية ..الدوافع والاتجاهات والتحديات
مصر، كتاب من التاريخ، تتعدد فصوله، تتداخل وتتمايز ولا تنتهي، ذلك باختصار، لأن كل حاضر صائرٌ إلى تاريخ بعد وقت.. وكذا المستقبل.
أيضا، مصر حلقات من الثورة الوطنية، بين كل حلقة وأخرى زمن.. ولئن كانت هذه الحلقات قد بدأت في القرن التاسع عشر بثورة عرابي، فإن ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 لن تكون -بالتأكيد- الحلقة الأخيرة، ذلك لأن روح الثورة لا تموت أبدا في الشعوب.
-الكتاب: الثورة المصرية- الدوافع والاتجاهات والتحديات
-المؤلف: سبعة عشر من الباحثين المصريين والعرب الشباب
-عدد الصفحات: 608
-الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات, الدوحة
-الطبعة: الأولى بيروت/ 2012
من تلك الروح التي لا تموت، استلهم الباحثون الشباب -في هذا الكتاب- روح الكتابة عن ثورة 25 يناير، في تمام الوقت الذي كانت فيه روح هذه الثورة العظيمة تلهمهم الكتابة بمنتهى الجرأة.. والثورة لا تزال مشتعلة، ولم تبلغ نهاياتها المنطقية بتجسيد أهم شعاراتها على الأرض: شعارات الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
لا، ليست الجرأة، فقط. السبعة عشر "كوكبا" كتبوا جميعا -لكنْ كل منهم من زاوية معينة- سبعة عشر فصلا، بحرفية بحثية عالية، وعاطفة كريمة، ورؤية.. لكن السؤال الذي يبقى يلازم القارئ ما أن ينتهي إلى "فل ستوب" هو: هل يكفي هذا السفر البحثي عن الثورة المصرية، رغم أهمية وتعدد فصوله، في سبر أغوار دوافع هذه الثورة العظيمة، وبيان اتجاهاتها، وتحديد تحدياتها الجسورة؟
السؤال -أي سؤال- يلد سؤالا.. والسؤال هنا: هل هي "مغامرة شبابية" إذن، أن "يغامر" هؤلاء الباحثون الشباب للكتابة -في هذا الوقت من وقت الثورة المصرية- والثورة هذه لما تبلغ الحُلم؟
ربما، تكون الإجابة، أن الثورة -أي ثورة في الدنيا- مغامرة.. ومن هنا، لن تكون الكتابة عنها، في أي وقت، إلا نوعا من أنواع المغامرة!
بحوث لكتاب مختلفين.. والنفس واحد!
البحوث -في هذا الكتاب الضخم- جاءت في إجمالها كحلقات مترابطة، كل حلقة تكاد تفضي إلى الأخرى، والنفس البحثي يكاد يكون نفسا واحدا، لكأنما هو نفس باحث واحد.. وكذا نفس الكتابة. هذا النفس الواحد شكل ميزة لهذا الكتاب الذي تعدد كاتبوه: إنها ميزة تجنب القارئ صدمة اختلاف الأنفاس، في "الطبخة" الواحدة!
البحوث أيضا، في مجملها، لم تقدم -فقط- قراءة توثيقية، تحليلية، للثورة المصرية: أسباب اندلاعها، وأهدافها، واتجاهاتها السياسية والاجتماعية، وإنما "أرشفت" في الوقت ذاته يومياتها بشفافية مطلقة.
هذا بالطبع مهم، لكن الأهم أنها حفظت للشباب -شباب الفيسبوك- دورهم الطليعي في تحويل عالمهم الافتراضي إلى عالم واقعي، بتفجير هذه الثورة.. وحفظت للجيش انحيازه الواضح لحركة الجماهير في لحظة تاريخية فاصلة.. وحفظت -ثالثا- للشعب المصري، كله تقريبا، نزوله المجيد إلى الشارع، باذلا عرقه ودمه، ليعطي هذه الثورة معنى مهما جدا: معنى أنها ثورة على الشيوع.. ثورة من الكل وللكل.. ومن هذا المعنى الفريد، انطلق في ثبات، ومروءة، ليعطي ثورته معنى أن تستمر، ومعنى أن تنتصر، رغم الخوذات والنيران.. ورغم "البلطجة والتنبلة"، وكل محاولات النظام البائسة، والشريرة، التي ظل يحاولها للالتفاف على الثورة، بثورة مضادة.
من هنا.. من هذه "الكلية" يمكن القول إن الثورة المصرية تجاوزت كل الاستدلالات التاريخية للثورات في العالم. إنها -باعتبارها ثورة على الشيوع- أصبحت تجسد أنموذجا فريدا، وهذا "ما يجعلها صعبة التفسير والفهم". هي بكل المقاييس "لم تكن علمانية، ولا إسلامية. ولم تكن ليبرالية، ولا يسارية"، ولم تكن لها قيادة منظمة، وليس وراءها تنظيم، ولا أحزاب، ولا تيار سياسي، أو فكري معين. "كانت بلا رأس إلا أنها كانت نابضة بالحياة والذكاء والتخطيط" وكانت رغم ذلك كله تعرف أعداءها الحقيقيين، وتعرف أهدافها، وتعرف كيف ترسم خريطة طريقها، لتجسيد شعاراتها النبيلة على الأرض.
أيضا، أعظم ما يلفت الانتباه، في هذه الثورة، أنها كانت مفاجئة: باغتت في الداخل السلطة.. وباغتت حتى الثوار أنفسهم.. وباغتت الخارج -حتى أميركا نفسها- في الوقت ذاته، رغم أن الخارج كان طرفا أصيلا في معادلات التغيير، ليس فقط في هذه المنطقة من العالم، وإنما في العالم كله، تقريبا.
ما لفت الانتباه، في الثورة المصرية، أسس عليه أحد الباحثين الشباب (علاء الشامي) رؤيته للمشهد الثوري العربي، كله: هو في إجماله، فاجأ الداخل وفاجأ الخارج معا.. وهذه المفاجأة "تؤسس لمرحلة جديدة، جعلت من الخارج محايدا للمرة الأولى.. بل أجبرته على نوع جديد من (الشراكة)"، شراكة مع الشعوب، وليست مع الأنظمة.. وهذا ما قالت به واشنطن، بأوضح ما تحتمل الجملة، بلسان أكثر من مسؤول رفيع.
المشهد الثوري العربي، الذي قالت عنه واشنطن، في تقريرها السنوي عن الحريات وحقوق الإنسان الخميس الماضي، إنه" ألهم العالم كله" سيكتب دون أدنى شك تاريخا جديدا لهذه المنطقة.. وسيكتب "شراكة" جديدة.. شراكة تجنب -في الأساس- الأنظمة الغربية الاهتمامات التي يكيلها الداخل الغربي.. الاتهامات من شاكلة أنها أنظمة منافقة: أنظمة تتحدث بلسان عن الديمقراطية والحريات والحقوق، في تمام الوقت الذي تدعم فيه الأنظمة الباطشة التي تذل وتقتل شعوبها!
ثورة مصر هبة لربيع الحرية والكرامة
مصر، لئن كانت ولا تزال "هبة النيل"، فإنها بثقلها التاريخي والجغرافي.. بحضارتها التليدة والمذهلة "هبة" لهذه المنطقة الحيوية، الروحية، من العالم.. هي -من هنا- بثورتها المجيدة "هبة" لربيع الحرية والكرامة: باكتمال انتصارات هذه الثورة، ستكتمل انتصارات ثورات الربيع العربي، ذلك لأن ما يحدث -عادة- في مصر يتخطى حدودها، إلى كل حدود العالم العربي، تلك التي يحدها الماء، والماء. تلك كانت -تقريبا- رؤية معظم الباحثين الشباب.. وهي رؤية يكاد يراها كل المعنيين بمستقبل الربيع العربي.
أهم التحديات.. "تثوير" الدولة
الثورة المصرية نجحت في إزالة نظام "فرعوني" بكل شخوصه التي احتكرت السلطة، واحتكرت القرار، لعقود عدة، لكن يبقى من المهم القول إن أي ثورة في الدنيا ليس غايتها فقط إهلاك نظام، وتغيير وجوهه بوجوه، الهدف النهائي لأي ثورة هو تغيير السياسات والمؤسسات.. وهذا أول تحديات الثورة المصرية.
الانتصار السياسي -وحده- لا يكفي. لا بد أن يرافق هذا الانتصار انتصار اجتماعي كامل، وانتصار مؤسساتي شامل، يترجم شعارات الثورة ترجمة حقيقية، أمينة، ومسؤولة.
لابد إذن للثورة، التي انتصرت بالهتاف والعرق والدم في الشارع، من الانتصار في كل أجهزة الدولة، لتصبح الدولة كلها -في النهاية- هي الحارس الأمين للثورة.. الحارس الأمين لشعارات الطهارة والحرية والكرامة والعدل والاعتدال.
بل لتصبح الدولة كلها في حالة ثورة مستمرة، ما نطلق عليه نحن "تثوير" الدولة، لا يمكن أن يتم -بحسب الباحثة شيماء حطب- إلا "بتفكيك الدولة، وإعادة تركيبها، ووضع ضوابط جديدة ناظمة لعلاقتها بالمجتمع، بحيث يكون للدولة -وحدها- الحق المشروع في السيطرة الاجتماعية، في ظل ضوابط تفاعلية، لا تفضي إلى تهميش المجتمع، أو التغول على مكتسباته الثورية".
مصر، إذا ما انتصرت ثورتها -بتثوير الدولة- ستنتصر كل الثورات في المنطقة.. وإذا ما أجهضت ثورتها بليل أو نهار ستعود الدولة -كما كانت- دولة للفرد أو التنظيم أو الحزب الواحد، وسيصبح على كل الربيع العربي السلام.. وستعود -بالتالي- المنطقة كلها إلى عهود الكرباج والزنزانة والطلقة والمشنقة والفساد والإفساد.. وعهود التيه!
"زبدة" البحوث
خيط واحد جمع كل هذه البحوث السبعة عشر: مصر في مرحلة تحول تاريخي باتجاه الديمقراطية.. وهذا التحول التاريخي يعيد تشكيل القوى المجتمعية كافة على أسس جديدة.. بل إن هذا التحول يفرض على هذه القوى إعادة تكوين ذاتها لإدارة الصراع السياسي وفق آلية الديمقراطية، بكل ما تتطلبه الديمقراطية من احترام للرأي والرأي الآخر.
الثورة المصرية، الآن، على السكة.. ولعل (الشهور المقبلة ستكون كاشفة لكثير من الادعاءات والفرص والتحديات والأوهام والحقائق).
ما بين الهلالين هو الجملة الأخيرة في هذا الكتاب -البحثي التحليلي- المهم. إنها الشهور المهمة في تاريخ ثورة 25 يناير وتاريخ مصر.. بل إنها الشهور المهمة في تاريخ ثورات الربيع العربي."هاشم كرار،الجزيرة"