غزة مربط خيلنا وليست "لاهاي".. هذا هو المطلوب من العرب!
كمال ميرزا
جو 24 :
بالنسبة لدولة مثل "جنوب إفريقيا"، فإنّ الدعوى التي قامت بتحريكها أمام محكمة العدل الدولية في "لاهاي" ضد الكيان الصهيوني بتهمة اقترافه الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزّة.. هي خطوة كبيرة ومهمّة تستحق كلّ الدعم والاحترام والتقدير.
ولكن بالنسبة للدول العربية والإسلامية فإنّ "الطنطنة" الزائدة لموضوع المحكمة الجنائية والتعويل عليه هو أمر يُسجّل ضدّها وليس لها، ومحاولة ممجوجة لتمويه تخاذل هذه الدول وتراخيها في القيام بأولويات أخرى يمليها عليها أمنها الوجودي وانتماؤها القومي وواجبها الديني والأخلاقي.
الأصل أن تنخرط الدول العربية والإسلامية في المجهود الحربي إلى جوار المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني وحلفائه، أو أن تدعم هذا المجهود الحربي، أو على الأقل لا تضيّق عليه وتربكه. وأن تقطع علاقاتها مع الكيان، وتجمّد الاتفاقيات الموقّعة، وتوقف أي مشاريع اقتصادية وتبادل تجاري وتنسيق أمني وتطبيع ثقافي معه.. ثم تأتي بقية الخطوات على غرار تحريك دعوى أمام محكمة العدل الدولية!
عندما يتم دعوة شخص إلى وليمة يُفرحه أن يكون الطبق الرئيسي مُدعّما بمقبلات وسلطات وأطباق جانبية، ولكن إذا تبيّن له أنّ الطبق الرئيسي غير متقن أو مشعوط أو "ماسخ"، فإنّ المقبّلات والسلطات والأطباق الجانبية لا تكفي وحدها لتعويض "فقسته" بالطبق الرئيسي!
رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية، أو استصدار قرار أممي ما، أو مخاطبة الرأي العام العالمي، أو محاولة إيصال صوت القضية الفلسطينية لشعوب الأرض، أو "الدبلوماسية النشطة" التي يمارسها البعض.. الخ، جميعها خطوات مهمة وضرورية، ولكنّها في نهاية المطاف بمثابة مقبّلات وسلطات وأطباق جانبية، أمّا الطبق الرئيسي هو ما يحدث في "الميدان" وعلى الأرض يوما بيوم ولحظة بلحظة في غزّة والضفة وسائر الجبهات المفتوحة.
الكلمة الفصل، هي للميدان، والذي يريد أن ينصر القضية الفلسطينية فينبغي أن ينصرها في الميدان أولا، ثم تأتي بقية الروافد والمسارات المساندة.
من أجمل مقولات "شاعر فلسطين" الراحل "مريد برغوثي" في كتابه النثري "ولدت هنا ولدت هناك": "نحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق بحيث نستردها بالبراهين"!
وبالمثل: "ما يحدث في غزّة ليست قضية إزالة شيوع نكسبها في أروقة المحاكم"!
ثمّ ماذا لو جاء قرار محكمة العدل الدولية بخلاف ما يأمل المطنطنين والمزمّرين؟ ماذا لو لم يستقر يقين هيئة المحكمة الموقّرة على أنّ الأفعال التي يقترفها الكيان الصهيوني تندرج ضمن تعريف الإبادة الجماعية؟ أو لم يستقر يقينها على توفّر النية والإرادة والقصد المسبق لدى الكيان لاقتراف إبادة؟
هل سيجبّ ذلك جرائم الكيان الصهيوني، ويجعلها تمر مرور الكرام، ويُضفي عليها شرعية ومعقولية ومقبولية زائفة؟
ماذا لو رفع الكيان الصهيوني بدوره دعوى مضادّة بذريعة الجرائم التي ينسبها للمقاومة والشعب الفلسطيني يوم 7 أكتوبر؟ وماذا لو جاء حكم المحكمة مؤيّدا للمزاعم الصهيونية واعتبرت أن "طوفان الأقصى" جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية.. هل سنصبح مطالبين بالرضوخ والإذعان لهذا الحكم باعتبارنا نحن الذين أيّدنا ابتداءً اللجوء لمحكمة العدل الدولية؟
وحتى لو لم يحدث لا هذا ولا ذاك، وجاء قرار المحكمة كما نشتهي، ما هي ضمانات تنفيذه؟ ومَن الذي سيفرضه على الكيان الصهيوني؟ وما الذي سيجبر الكيان على الرضوخ له؟
أم تراه سينضم إلى القائمة الطويلة من القرارات والأحكام المركونة في الأدراج أو الموضوعة على الأرفف؟ وليصبح مادة أخرى للبكائيات واللطميات على العدالة المُعطّلة والحقوق المهدورة؟
الفائدة الدعائية من صدور حكم غير معروف الفحوى والصياغة بعد، وغير قابل للتنفيذ، من قبل محكمة العدل الدولية، هل تكافئ المحاذير التالية التي يمكن أن تترتب على الاهتمام والتركيز والتعويل المبالغ فيه على موضوع المحاكمة؟
أولا، المزيد من شراء الوقت لصالح الكيان الصهيوني بدماء أهالي غزة وعموم الفلسطينيين.
ثانيا، المزيد من الإلهاء والتشتيت وصرف التركيز عن الجرائم والمجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني الآن، وتوّا، وبشكل ممنهج، في قطاع غزة والضفة الغربية.
ثالثا، إضفاء شرعية غير موجودة على الشرعية الدولية التي فقدت شرعيتها منذ وقت طويل بسبب انحيازها وازدواجية معاييرها وتكريسها كأداة تخدم مصالح الغرب والدول الكبرى.
الحالة الوحيدة التي يمكن أن يصدر فيها قرار عن محكمة العدل الدولية ويُطبّق هي أن تُصدر المحكمة قرارا بالوقف الفوري لإطلاق النار في غزّة، ثم يستجيب الكيان الصهيوني طواعيةً من تلقاء نفسه، لا لأنّه يحترم قرارات المحكمة والقانون الدولي، ولكن باعتبارها فرصة سانحة تحفظ الحدّ الأدنى من ماء وجهه المُفترَض للنزول عن الشجرة التي تورّط بالصعود إليها في ضوء بطولات المقاومة وصمود الأهالي الأسطوري.
والحالة الثانية الممكنة هي أن يصدر قرار وتتخذه الولايات المتحدة وقوى المعارضة داخل الكيان حجّة للتخلّص من "نتنياهو" وعصابة حربه بعد أن انتهت مدة صلاحيتهما وأصبحا خطرا يهدد مصالح الجميع!
العرب هم أكبر "المتمقلبين" بما يسمّى "الشرعية الدولية" وقوانينها ومؤسساتها، لذا ينبغي عليهم الحذر حتى لا تصبح حفاوتهم الزائدة بالدعوى المرفوعة في "لاهاي" مدخلا ليطالهم مقلب آخر!