أميركا تحثّ الخطى نحو توسيع الصراع.. وتعطّل كلّ جهود وقف الحرب على غزة
كمال ميرزا
جو 24 :
يقول المثل العربي المُقتبس عن بيت شعر لابن سهل الأندلسي: أوشك المُريب أن يقول خذوني.
وفي الحبكات الدرامية، وفي الحياة الواقعية أيضا، كثيرا ما نكتشف أنّ أكثر الشخصيات حديثا عن الشرف هو أقلّهم شرفا، وأكثرهم حديثا عن الفضيلة هو أشدّهم قذارة!
وبالمثل، منذ اليوم الأول لـ "طوفان الأقصى" وحرب "الإبادة" و"التهجير" الصهيونية التي تلته، والولايات المتحدة هي أول من بدأ بترديد لازمة: "لا نريد توسيع الصراع.. لا نريد توسيع الصراع".. في حين أنّها هي التي تعمل ليل نهار على توسيع الصراع وإطالة أمده!
أميركا هي التي سارعت بإرسال قطعها الحربية إلى شرق المتوسط، وسارعت بإرسال وحدات من قواتها الخاصة للمرابطة في "إسرائيل"، وسارعت بإرسال قادتها وجنرالاتها لتقديم النصح والمشورة للكيان.. أليست هذه عسكرة للمنطقة وتوسيعا للصراع؟
وأميركا هي التي بادرت بإقامة جسر جوي لمدّ الكيان الصهيوني بالسلاح والعتاد، وذلك إلى جانب الضوء الأخضر المفتوح الذي منحته للكيان لاقتراف جرائمه دون رقيب أو حسيب.. أليس هذا توسيعا للصراع؟
وأميركا هي أول مَن بدأ بإطلاق التهديدات يمينا ويسارا ضد كل مَن تسوّل له نفسه التدخّل ضد الكيان الصهيوني ومن أجل غزّة.. أليس هذا توسيعا للصراع؟
وبعد الهدنة الإنسانية المؤقتة وتبادل الأسرى الذي جرى بين الكيان الصهيوني والمقاومة، بدا واضحا أنّ أميركا هي السبب الرئيسي وراء تجدّد القتال، وأنّ الحرب قد باتت فعليا حربا أمريكية يخوضها الكيان الصهيوني بالوكالة.. أليس هذا توسيعا للصراع؟
وأميركا هي المسؤولة عن تعطيل كافة القرارات الأممية من أجل وقف إطلاق النار في غزّة.. أليس هذا توسيعا للصراع؟
وأميركا هي التي بادرت بتهويل ما يحدث في البحر الأحمر، والمسارعة للعسكرة والتصعيد من خلال تشكيل تحالف دولي ضد اليمن، وذلك عوضا عن علاج أصل المشكلة بإيقاف الحرب على غزّة، أو مجرد تنفيذ المطلب السهل والبسيط والمنطقي لليمنيين وهو إدخال الغذاء والدواء إلى القطاع.. أليس هذا توسيعا للصراع؟
وأميركا هي التي بادرت باستهداف ومهاجمة القوات اليمنية، وإشراك الآخرين في ذلك، وإحراج حلفائها الإقليميين وجرّهم إلى دائرة الخطر.. أليس هذا توسيعا للصراع؟
وبعد جولة "بلينكن" الأخيرة في المنطقة، وعلى غرار ما حدث عقب جميع جولاته السابقة، ألم تعلن أميركا أنّها لا تؤيد حاليا وقفا لإطلاق النار.. أليس هذا توسيعا للصراع؟
أميركا هي من تريد توسيع الصراع، والأمر يتعدّى مجرد إحساس "بايدن" بالغرق ومحاولته اليائسة للتشبث والخروج من ورطته (مثل نتنياهو)، فتوسيع الصراع هو في صلب العقلية الأميركية ومنطق تفكيرها ومنهجية عملها للأسباب التالية:
- الاقتصاد الأميركي هو اقتصاد حرب، وأي صراع يُسهم في رفد الاقتصاد الأمريكي، ويصبُّ في مصلحة لوبياته وشركاته ومطابع دولاراته وأرباب ماله وأعماله.. بغض النظر عن طبيعة هذا الصراع وفحواه.
- توسيع الصراع هو محاولة من أميركا لمقاومة التغيّر المتنامي الحاصل في موازيين القوى العالمية، والتمسّك بنفوذها وهيمنتها في المنطقة وإعادة إنتاجهما.
- توسيع الصراع هو محاولة لابتزاز دول الخليج، السعودية والإمارات بشكل خاص، ومصّ المزيد من دمائها بحجة حمايتها، خاصة أنّ هذه الدول بدأت تُبدي شيئا من "النمردة"، وتحاول أن "تلعب وحدها"، أو أن تسبر فرصا وشراكات أخرى خارج الفلك الأميركي.
- توسيع الصراع هو محاولة لخلق أزمة نفط عالمية، وها هو "بايدن" قد بدأ بالفعل بإطلاق تصريحات تصبّ في هذا الاتجاه. وهذه الأزمة ستضر في المقام الأول الصين وسائر الدول الصناعية التي تعتمد بشكل أساسي على النفط، في حين أنّ أميركا لن تتضرر، فشركات النفط الأميركية ستحصد أرباحا بكل الأحوال، وأرباح روسيا وإيران وفنزويلا ستبقى مكبّلة بسبب العقوبات. والأهم، أنّ إنتاج الغاز الأميركي قد بات كافيا لتغطية احتياجاتها الداخلية من الطاقة، وأيّ أزمة نفط ستسهم في زيادة الطلب على هذا الغاز كما حدث بعد تفجير أنبوب غاز السيل الشمالي بحجة الحرب في أوكرانيا.
- توسيع الصراع سيسهم في الإلهاء وتشتيت الانتباه، وسيعطي الكيان الصهيوني المزيد من الوقت لإتمام مهمته القذرة، وفرض التهجير كأمر واقع في غزّة بعد تدمير كافة سبل ومقومات العيش هناك، وتهيئة الأرضية لسلب ثروة الفلسطينيين من غاز البحر المتوسط على يد شركات أميركية عبر وكلاء محليين.
- نفس الكلام ينطبق على بريطانيا وهولندا وأستراليا، والتي يبدو أنّ شركاتها تؤمّل نفسها هي الأخرى بحصة من كعكة غاز غزّة. وبالفعل هناك تقارير تحدّثت عن قيام الكيان الصهيوني سلفا بمنح شركة "بريتش بتروليوم" وغيرها من الشركات رخصا لاستثمار غاز غزّة باعتبار أنّ إعادة احتلال القطاع هي مسألة وقت وتحصيل حاصل!
الحقير في جميع الحروب والصراعات التي تخلقها وتديرها وتؤججها أميركا ليس فقط الطمع والجشع واسترخاص الحياة الإنسانية، بل وأيضا أنّ هذه الصراعات تجري دائما على تراب الآخرين، في حين تستغل هي نأيها الجغرافي وصعوبة وصول أعدائها إليها، أو نقل القتال ليدور على التراب الأميركي.. لذا فإنّ أميركا لا تمانع لو طال أي صراع أو توسّعت "فوضاه" وزادت أعداد ضحاياه بلا حدود، ولسان حالها بهذا الخصوص يقول: "إذا لم استطع أن آكل الكعكة وحدي فعلى الأقل لن يأكلها أحد غيري"!
المشكلة في سياسة "أنا ومن بعدي الطوفان" التي تنتهجها أميركا مع الآخرين أنّ الطوفان، "طوفان الأقصى"، قد سبقها ولم يأتِ بعدها هذه المرّة، وفي حال إصرارها على توسيع الصراع واتّباع نفس سياستها الإجرامية الاعتيادية فربما تكون هي ونفوذها ومصالحها أكبر الغارقين ولو بعد حين!