الفرق بين أن تكون وطنيّا وأن تكون صهيونيّا..
كمال ميرزا
جو 24 :
هناك شعرة رفيعة في التجربة السياسية المعاصرة بين أن تكون "وطنيّا" أو تكون "صهيونيّا"!
فعندما نقرّ أنّ الكيان الصهيوني الذي يُسمّى تجاوزا "دولة إسرائيل" هو وليد المشروع الاستعماري الرأسمالي الغربي للسيطرة والهيمنة على المنطقة، فهذا لا يعني أنّ هذا المشروع ينحصر في هذا الكيان أو يقتصر عليه.
فمجمل الترتيب السياسي والخريطة السياسية للمنطقة، والتي جعلت من الأردن هو الأردن، وفلسطين هي فلسطين (مع وقف التنفيذ)، وسوريا هي سوريا، ولبنان هو لبنان، والعراق هو العراق، والسعودية هي السعودية، ومصر هي مصر.. الخ، هي حصيلة للمشروع الاستعماري الغربي كما تمّ التأسيس له عبر "اتفاقية سايكس بيكو"، و"وعد بلفور"، و"مؤتمر سان ريمو"، و"معاهدة لوزان".. وذلك في مواجهة المشروع الوحدي العربي الذي نادى به النهضويون العرب و"الثورة العربية الكبرى" وسائر المشاريع والدعوات الوحدوية اللاحقة.
لذا فإنّ أي شخص طبيعي أو اعتباري، أو مؤسسة بالمعنى الواسع لكلمة مؤسسة، أو نظام سياسي برمّته، يتبنّى خطابا رسميا وتعبويّا ومشروعا وطنيا يقوم على قيام الناس بتقييف ولائهم وانتمائهم وقيام الدول بتقييف مصالحها وأولوياتها على مقاس الحدود السياسية أعلاه.. فهؤلاء في حقيقة الأمر يعيدون التأكيد على المشروع الرأسمالي الاستعماري الغربي، ويعيدون إنتاجه وإنتاج حالة "الاستلاب" و"التبعية" و"الدور الوظيفي" الذي أراده الغرب لكل دولة قُطرية من دول المنطقة.
المشكلة أنّه حتى وقت قريب كان أعتى أعداء فكرة "الوحدة العربية" و"الأمّة العربية الواحدة" و"المصير العربي المشترك" لا يجرؤون على التصريح بقناعاتهم ومواقفهم جهارا نهارا لأنّ "الوحدة" هي القناعة الكامنة والمزاج العام المتجذّر في وجدان السواد الأعظم من الناس من المحيط إلى الخليج.
ولكن في العشرين سنة الماضية، ونتيجة لعقود وعقود من السياسات الاستعمارية الظاهرة والباطنة المُمنهجة، بدأنا نشهد فيما يُفترض أنّه "وطن عربي" واحد نمو تيّارات "قُطرية شوفينية" متصاعدة، تُعلي من شأن "الذات القُطرية"، وتضعها في تضاد مع "الذات القومية" أو "الدينية"، وتطالب الجميع بحصر ولائهم وانتمائهم ومخيالهم ووجدانهم في الحدود السياسية لبلدانهم، وتزاود عليهم باسم "الولاء" و"الانتماء" و"الأمن" و"الأمان" و"المصلحة الوطنية العليا"، وتُشهر في وجوههم تهما مُعلّبة وجاهزة كالخيانة والعمالة وتبني أجندات خارجية والتطرّف والإرهاب!
غباء هؤلاء "الوطنيون الشوفينيون" لا يقتصر على فهمهم القاصر لكلمات مثل "الانتماء" و"الأمان" و"المصلحة الوطنية"، وحصرهم ذلك في حدود انتماءاتهم الفرعية ومصالحهم الخاصة وتكسّبهم الشخصي بتشعّباته الداخلية والخارجية.. بل إنّ غباءهم يتعدّى، وهو الأخطر، إلى تبنّي مفهوم "صهيوني" للوطن والمواطنة أدركوا ذلك أم لم يدركوه!
فالقوى الاستعمارية عندما قسّمت المنطقة العربية قامت بذلك وفق نفس النموذج الذي سبق استخدامه في تقسيم أوروبا وامبراطورياتها الكبرى، وأفرز الحروب الكبرى والعالمية التي نعرفها، وهو نموذج ما يسمّى الدولة القومية الحديثة، أو الدولة/ الأمّة، أو الدولة "الويستفالية".
وهذا النموذج يقوم على فكرة "الشعب العضوي"، أي الشعب الذي يستمدّ ذاته القومية (أو هويته الوطنية) من خلال ارتباطه العضوي/ المادي المباشر برقعة جغرافية معيّنة من الأرض، وهي الفكرة المُستمدّة من الفكر الصهيوني الذي يستقي من مشارب توراتية وتلمودية محرّفة، حيث أنّ الوحدة المزعومة للشعب اليهودي وذاته القومية مستمدّتان من الارتباط العضوي لجميع يهود العالم برقعة معيّنة من الأرض هي "أرض الميعاد".
وبهذا، فإنّ المشروع الرأسمالي الاستعماري الغربي لم يفرز فقط الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق والسعودية ومصر.. الخ، أي (22) دولة عربية قُطرية "مستقلة" عن الآخرين ومنكفئة على ذاتها، بل أفرز أيضا الشعب الأردني والشعب الفلسطيني والشعب السوري والشعب اللبناني والشعب العراقي والشعب السعودي والشعب المصري.. الخ، أي (22) شعبا عربيا عضويا يظن كلّ شعب منهم أنّه ذات قومية/ هوية وطنية مكتملة وقائمة بحدّ ذاتها، ومرتبطة بأرض ميعادها الخاصة بها كما ترسمها وتؤطّرها حدودها السياسية.
وهكذا بات الأردن دولة "أخرى" بالنسبة لسوريا وبالعكس، والعراق دولة "أخرى" بالنسبة للبنان وبالعكس، والشعب السعودي شعب "آخر" بالنسبة للشعب اليمني وبالعكس، والشعب المصري هو شعب "آخر" بالنسبة للشعب السوداني وبالعكس.. وهكذا دواليك!
قد تلتقي وتتقاطع وتتكامل مصالح وأولويات دولتين/ شعبين أو أكثر من هذه الدول والشعوب العربية، ولكن يمكن أيضا لهذه المصالح والأولويات أن تتعارض وتتنافر وتتناحر. بل ويمكن عند لحظة معينة أن يصبح البعيد أو الغريب أو الأجنبي أو العدو أقرب في منطق ومخيال ووجدان دولة عربية معينة/ شعب عربي بعينه من القريب والشقيق!
في حالة الأردن تحديدا، يُضاف إلى الكلام أعلاه نقطتان أساسيتان نابعتان من خصوصية الحالة الأردنية:
الخصوصية الأولى أنّ الأردن هو وريث الثورة العربية الكبرى وحامل لوائها، والثورة العربية وإن كانت مشروع انفصال واستقلال عن الدولة العثمانية والقوميين الأتراك، إلا أنّها في نفس الوقت مشروع وحدوي عربي.
وأي فهم أو محاولة لإعادة تعريف الهوية الوطنية الأردنية بمعزل عن نزعتها الوحدوية الأصيلة هي نكوص عن الفكرة التي قام عليها الأردن مهما ادّعى أصحاب هذا الخطاب الولاء والانتماء والوطنيّة!
من هنا مثلا كان الصدام بين الشريف الحسين بن علي والإنجليز ومجمل الدول الاستعمارية الغربية التي خانت عهودها معه بتشكيل دولة عربية موحّدة في المشرق العربي.
ومن هنا كان إصرار الأمير/ الملك عبد الله الأول على المطالبة بـ "سوريا الكبرى"، بكون قبوله بتأسيس إمارة شرق الأردن وفق الترتيب المتفق عليه مع الإنجليز كان إجراءً مؤقتا لحين تهيّؤ الظروف المواتية للإعلان عن تأسيس سوريا الكبرى.
ومن هنا كان رفض الأمير/ الملك عبد الله الأول توقيع ميثاق جامعة الدول العربية في بداية الأمر لولا الضغوط التي تعرّض لها، وذلك بكون ميثاق الجامعة ينص على احترام استقلال وسيادة الدول العربية الموقّعة على الميثاق، بمعنى نهاية ووأد مشروع سوريا الكبرى.
ومن هنا كان إصرار الملك الحسين كما يوضّح في كتاب "حربنا مع إسرائيل" على نبذ الخلافات مع الشقيقة مصر، والذهاب بنفسه إلى "عبد الناصر"، وتوقيع معاهدة دفاع مشترك على وجه السرعة، وإعلان دخول الأردن في حرب الـ 67 فور اندلاعها رغم قناعته أنّها حرب خاسرة والظرف العربي غير مواتٍ.. وذلك حفاضا على فكرة "التضامن العربي" و"الجبهة العربية الموحّدة".
الخصوصية الثانية هي أنّ الدستور الأردني ينصّ صراحة على أنّ الأردن جزء من الأمّة العربية، وأنّ الإسلام هو دين الدولة، وبالتالي أي محاولة لتعريف الأردن بمعزل عن امتداده العربي وعمقه الإسلامي، أو بدلالة قربه من الغرب وتشبهه فيه، هي ليست فقط مخالفة للدستور باعتباره "العقد الاجتماعي" الذي تقوم عليه الدولة، بل وأيضا تفريغ لكلمة الأردن والهوية الوطنية الأردنية من مضمونها، وجعلها قالبا يخلو من المعنى حتى لو تمّ تمويه ذلك بقشرة برّاقة من الخطاب الدعائي والإعلامي المُنمّق والمُزاوِد.
خلاصة الكلام أنّ الأردنيّ الحقيقي لا يكون أردنيّا حقّا إلا إذا اعتبر نفسه فلسطينيا وسوريا ولبنانيا وعراقيا وسعوديا ومصريا وصوماليا.. الخ بنفس المقدار.
والأردني الحقيقي عندما يبذل جهودا أو يدفع أثمانا أو يقدّم تضحيات من أجل فلسطين أو سوريا أو لبنان أو العراق أو السعودية أو مصر أو الصومال.. الخ، فإنّه لا يفعل ذلك باسم تقاطع المصالح أو الأخوّة أو حتى كرم الأخلاق، بل هو يفعله من أجل نفسه وحمايةً لـ "أمنه الوجودي" وصوناً لذاته القومية/ الوطنية.
ذات الكلام ينطبق على الفلسطيني والسوري واللبناني والعراقي والسعودي والمصري والصومالي.. الخ.
وتنصّل بعض العرب (أو المسلمين) من هذا الفهم وهذه القناعة وهذه الروحيّة، لا يعفي الآخرين من مسؤوليتهم، ولا يمنحهم العذر والذريعة ليتنصلوا بدورهم ويرتدّوا على أعقابهم هم أيضا.
وفي المقابل، كلّ عربي (ومسلم) يصرّ على إرساء وفرض فهم عضوي للانتماء والهوية الوطنية الحبيسين داخل نطاق حدود الدولة السياسية.. فإنّه بذلك ينحو منحىً صهيونيّا من خلال التأكيد وإعادة التأكيد على نفس نموذج الدولة الذي يقوم عليه الكيان الصهيوني الغاصب ويبني عليه شرعيته المزعومة!
ومن قبيل الشيء بالشيء يُذكر، تجدر الإشارة هنا إلى أنّ مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يتبنّى منهجيّة "الفوضى الخلّاقة" كما تتجسّد من خلال "الحرب على الإرهاب" و"الربيع العربي".. هو من حيث النموذج الكامن نفس المشروع الرأسمالي الاستعماري الغربي أعلاه، ولكن بأساليب وأدوات جديدة، ومع محاولة تطبيقه ضمن نطاق كل دولة من الدول العربية القُطرية بعد النجاح في تطبيقه على مستوى الوطن العربي ككل، وذلك من أجل "تفكيك ما هو مفكك وتفتيت ما هو مفتت"، و"لبننة" البلدان العربية بكون لبنان هو "النموذج القياسي" الذي تحاول القوى الاستعمارية تعميمه وفرضه على بقية الدول العربية.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ الأوروبيين أنفسهم، مهد المشروع الاستعماري الرأسمالي، ومهد الدولة "الويستفالية" الحديثة، قد أدركوا مثالب هذا النموذج للدولة والويلات التي جرّها عليهم، وبالتالي كان الحل بالنسبة لهم هو "الوحدة" من خلال "الاتحاد الأوروبي"، دون التفريط بالضرورة بالسيادة الوطنية والخصوصية القومية/ الوطنية لكل دولة منفردة من دول الاتحاد.
ونفس الكلام ينطبق على الولايات المتحدة الأميركية، والتي هي عمليا اتحاد فدرالي لواحد وخمسين دولة قُطرية مستقلة تجمعها سياسة خارجية وسياسة دفاع وسياسة نقدية واحدة، وإحساس جامع بأنّهم يشكّلون مجتمعين أمّة أميركية واحدة على الرغم من أنّ عوامل تنافر هذه الأمّة المزعومة أو المصطنعة أكبر كثيرا من عوامل انسجامها وتناغمها واستقرارها!
وجزء كبير من موقف أوروبا وأميركا من الكيان الصهيوني وحرب الإبادة والتهجير التي يشنّها على الشعب الفلسطيني في غزّة، وذلك إلى جانب المصالح الاقتصادية والسياسية، أنّهم يعتبرون ما يُسمّى "الحياة اليهودية" جزءا وجوديّا لا يتجزّأ من الحياة الغربية ورؤيتها للكون والآخرين، وذلك بصورة تجعل من "إسرائيل" بمثابة دولة أخرى من دول الاتحاد الأوروبي وولاية أخرى من ولايات الفدرالية الأميركية، وذلك بخلاف العرب الذين يبقون "آخرين" و"ضدّا" و"أغيارا" مهما بلغت درجة الود وتقاطع المصالح بينهم وبين الغرب!
وختاما لا بدّ من التنويه أنّه عندما يقال "عرب" و"عروبة"، فليس المقصود هو المعنى المادي/ العِرقي/ البيولوجي الضيّق للكلمة، بل المقصود "العروبة" بمعناها الثقافي الجامع الذي يجعل كلّ مَن كان "اللسان العربي" لغةً له ومنطقا لتفكيره ومخيالا لوجدانه وذائقته الجمالية جزءاً لا يتجزّأ من كيان العروبة وفضائها.
وبالمثل، المقصود بالإسلام هو الإسلام بمعناه الواسع، أي الإسلام كـ "رؤية للكون"، وإطار حضاري إنساني جامع يقرّ بوجود الآخر غير المسلم وشرعيّة هذا الوجود وينظّم علاقته معه على هذا الأساس، وليس الإسلام كمجرد مجموعة من التعاليم والشعائر والطقوس.