jo24_banner
jo24_banner

مَن المستفيد؟

كمال ميرزا
جو 24 :



في كتابه المهم بعنوان "الوظائف الظاهرة والكامنة"، يقوم عالم الاجتماع (روبرت ميرتون)، أحد أهم منظّري علم الاجتماع في القرن العشرين، بتحليل "الأجهزة السياسية" وظيفيا، وكيفية محافظة هذه الأجهزة على بقائها في مواجهة الإدانة واسعة الانتشار، أو حسب تعبير (ميرتون): "كيف تستطيع الأجهزة السياسية الاستمرار في العمل.. مع وجود مجالات متنوعة تصطدم فيها بالأعراف وفي بعض الأحيان بالقانون"؟

وعندما نقول "الأجهزة السياسية" فهذا المصطلح يشير إلى كافة مؤسسات صناعة القرار والحكم والإدارة وإنفاذ القانون داخل دولة ما ومجتمع ما بجميع العاملين فيها.

ماذا لو طبّقنا هذا السؤال على حالة حرب الإبادة والتهجير التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة على يد الكيان الصهيوني المحتل، وموقف الأنظمة العربية من هذه الحرب؟

كيف تستطيع الأنظمة العربية الاستمرار في سياساتها ومواقفها الحالية تجاه ما يحدث رغم الإدانة الشعبية واسعة الانتشار؟

كيف لا تعلن هذه الأنظمة الحرب على الكيان الصهيوني، أو على الأقل تهدد بها، باعتبار أنّ الأمّة العربية هي أمّة واحدة، وأنّ الاعتداء على أي جزء أو مكوّن من مكوّناتها هو اعتداء على الأمّة كلها، سيما وأنّ دساتير الدول العربية تنص على ذلك بهذه الصيغة أو تلك؟

كيف لا تقطع هذه الأنظمة علاقاتها السياسية مع الكيان الصهيوني، وتلغي أو تعلّق أي معاهدات أو اتفاقيات موقّعة معه؟

كيف تستمر هذه الأنظمة في علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، وتنسيقها الأمني، وتبادلها التجاري، وتطبيعها الثقافي معه؟

كيف تواصل هذه الأنظمة اعترافها بالكيان الصهيوني، وهي التي ترفض في نفس الوقت الاعتراف بفصائل المقاومة الفلسطينية رسميا كـ "حركات تحرّر وطني" مشروعة؟

كيف تستمر هذه الأنظمة بمدّ الكيان الصهيوني بمقوّمات العيش والبقاء والاستمرار بما يمكنّه من احتواء آثار الحرب وتداعياتها، بينما تلتزم تماما بالحصار المفروض على أهل غزّة، ولا تحاول بذل جهد إضافي لكسر هذا الحصار (باستثناء التصريحات الرنانة)، أو حتى محاولة كسر هذا الحصار بالقوة؟

من وحي مثل هذه الأسئلة يأتي الإسهام الرئيسي لـ (روبرت ميرتون) في تطوير النظرية الاجتماعية والمدرسة الوظيفية في التحليل.

ففي المنظور التقليدي يتم تحليل أي جهاز سياسي وظيفيا من خلال الوظيفة/ المصالح/ المنافع/ الخدمات التي يؤدّيها هذا الجهاز للمجتمع ككل، أي أنّ المجتمع هنا هو "وحدة التحليل".

ولكن إسهام (ميرتون) الأساسي يتمثّل في تأكيده أنّ أي مجتمع هو مكوّن من "جماعات"، وأنّ "الجماعة" هي وحدة التحليل، وأنّ ما هو "وظيفي" بالنسبة لجماعة معينة داخل المجتمع، أي مفيد ويخدم هذه الجماعة ويصبّ في مصلحتها ويحافظ على استقرارها واستمرارها.. قد لا يكون وظيفيا بالنسبة لجماعة أخرى.

وطبعا الجماعتان الرئيسيتان في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، إلى جانب موظفي جهاز الدولة السياسي، هما "رجال الأعمال" و"الفقراء".

في ضوء ما تقدّم فإنّ السبيل لتحليل سلوك وأداء ومواقف وقرارات الأجهزة السياسية يكون من خلال طرح سؤال: "مَن المستفيد"؟ بمعنى أيّ جماعة أو فئة أو شريحة داخل المجتمع هي المستفيدة "وظيفيا" من سلوك وقرارات الأجهزة السياسية؟!

وهنا يأتي الإسهام المهم الثاني لـ (روبرت ميرتون) وذلك من خلال تمييزه بين نوعين من الوظائف: "الوظائف الظاهرة" والتي تشمل نظريا أو ظاهريا المجتمع كلّه مثل "المصلحة الوطنية العليا" و"الأمن القومي" و"الرخاء" و"الازدهار" و"الاستقرار" و"الأمن والأمان" و"التطوير والتحديث".. الخ. و"الوظائف الكامنة" التي تصب في مصلحة جماعة أو فئة معينة داخل المجتمع على حساب بقية الفئات.

بتطبيق هذا التحليل على حرب الإبادة والتهجير في غزّة تصبح الأسئلة كالتالي:

مَن هي الفئة داخل المجتمعات العربية المستفيدة "وظيفيا" من السلام مع الكيان الصهيوني، والتي ستتضرر في حالة إعلان الحرب عليه أو قطع العلاقات معه؟

مَن المستفيد داخل المجتمعات العربية من استمرار التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني؟

مَن المستفيد داخل المجتمعات العربية من استمرار التبادل التجاري مع الكيان الصهيوني؟

مَن المستفيد داخل المجتمعات العربية من التطبيع الثقافي مع الكيان الصهيوني؟

مَن المستفيد داخل المجتمعات العربية من عدم الاعتراف بفصائل المقاومة الفلسطينية؟

مَن المستفيد داخل المجتمعات العربية من الجسر البرّي مع الكيان الصهيوني؟

مَن المستفيد داخل المجتمعات العربية من حصار غزّة؟

مَن المستفيد داخل المجتمعات العربية من القضاء على المقاومة الفلسطينية؟

مَن المستفيد داخل المجتمعات العربية من إبادة وتهجير الشعب الفلسطيني، وتصفية القضية الفلسطينية نهائيا؟

مَن المستفيد.. وما هي "الوظائف الكامنة" التي تؤديها مثل هذه المواقف المتخاذلة أو المتنصّلة أو المتواطئة أو المتآمرة لصالح هذا المستفيد.. وذلك على حساب مصلحة الدول والشعوب العربية ككل، واستقرارها، ومستقبلها، و"أمنها الوجودي"؟!

الراغبون في الاستزادة يستطيعون الذهاب والبحث والقراءة أكثر حول التحليلات الوظيفية للأساليب التي تلجأ إليها "الأجهزة السياسية" الموصوفة أعلاه في "القيادة" و"تغيير مسار اللوم" (أي التنصّل من مسؤولية قراراتها).. ولكن بيت القصيد هنا، أنّ "العلم" و"المنهج العلمي" و"المنظور الوظيفي" يقولون لنا أنّنا إذا أردنا أن نفهم، وأن نعرف على مَن تقع المسؤولية، فعلينا أن نسأل أنفسنا: مَن هو المستفيد (أي المستفيد الحقيقي الكامن)؟ وهو السؤال الذي يكافئ من وجهة النظر الوظيفية سؤال: مَن هو صاحب القرار؟ بمعنى أنّ المستفيد هو صاحب القرار وأنّ صاحب القرار هو المستفيد بمعزل عن أي فوائد ظاهرية مزعومة ستعود على الدولة والمجتمع!

الكلام أعلاه فيه تأصيل علمي لأحد الأمثال الشعبية المشهورة التي تعبّر عن التراكم الثقافي لحكمة وتجربة المجتمع عبر الأجيال: "حساب القرايا غير حساب السرايا".

وفيه أيضا تأصيل علمي لأحد الأقوال المأثورة عن رابع الخلفاء الراشدين الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: "ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني"!

لكن الفرق هذه الأيام أنّ الفقير لا يَجُوع فقط، بل يُذل ويُستعبد ويُنكّل به ويُحبس ويُطرد ويُشرّد ويُهجّر ويُدمّر ويُباد ويُسلب حقه بالعيش والكرامة وتقرير المصير!


كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news