"الجسر البرّي" ليس عارا.. هذا هو العار الحقيقي!
كمال ميرزا
جو 24 :
"إعلان الحرب على الكيان الصهيوني نصرةً لغزّة والأقصى وفلسطين"..
الأصل أن يكون هذا هو المطلب الأساسي والشعار الأوحد الذي ترفعه جميع الشعوب العربية والإسلامية.. وذلك في مواجهة حرب الإبادة والتهجير وسياسة التجويع والتعطيش والأرض المحروقة التي تشنّها الولايات المتحدة الأميركية على الشعب الفلسطيني عبر ربيبتها "إسرائيل"!
هذا ما يمليه الواجب القومي والديني والإنساني..
وهذا ما تمليه قيم النخوة والمروءة والفروسيّة وأن يكون الإنسان "نشميّا" بحق، ووطنيّا بحق، وعربيّا بحق..
وهذا ما تمليه قيم التقوى والصلاح والاستقامة والإخلاص والعبودية لله وحده..
وهذا ما يمليه "الأمن الوجودي" للدول العربية والإسلامية..
وهذا ما تمليه المصلحة الإستراتيجية بعيدة المدى لهذه الدول وشعوبها بالمعنى المادي النفعي البرجماتي المباشر لكلمة "مصلحة"!
وعليه، إذا كان هناك "وصمة عار" حقيقية يمكن أن تُرمى بها الأنظمة العربية والإسلامية فهي عدم مبادرتها بإعلان الحرب..
وإذا كان هناك تقاعس أو تخاذل أو تواطؤ معيّن يمكن أن تُتهم به الأنظمة العربية والإسلامية فهو عدم مبادرتها بإعلان الحرب..
وإذا كانت هناك حسابات خاطئة أو قرارات خائبة يمكن أن تُنتقد عليها الأنظمة العربية والإسلامية فهي عدم مبادرتها بإعلان الحرب!
والكلام هنا ليس من قبيل العاطفة أو التنظير، فالمقاومة الفلسطينية قد قامت بمنح الأنظمة العربية والإسلامية في (7) أكتوبر فرصةً تاريخيةً لا تُعوّض لمباغتة الكيان الصهيوني، والانقضاض عليه، وضربه ضربة رجل واحد، وفرض أمر واقع جديد وشروط جديدة على الساحة الدولية، وصولا للتخلّص من هذا الكيان والخطر الذي يمثّله بشكل نهائيّ.. ولكن هذه الأنظمة ببساطة قد فرّطت بهذه الفرصة باختيارها وملء إرادتها!
وبالعودة إلى الحِراكات الشعبية، سنجد أنّها هي الأخرى قد فرّطت بهذا المطلب، والمسار الذي اتخذته هتافاتها وشعاراتها هو مسار الابتعاد عن هذا المطلب وتعميته وتمييعه.
فمنذ اللحظة الأولى اتخذت الحِراكات الشعبية قطْعَ العلاقات وإلغاء المعاهدات مع الكيان الصهيوني عنوانا لها.. وليس إعلان الحرب عليه والتعبئة العامّة ضدّه.
وحتى أولئك الذين طالبوا وقتها بفتح الحدود والسماح بالقتال فقد جاءت مطالبهم استعراضية صبيانية، وبأن يذهبوا هم للقتال بدلا من مطالبة الدول والأنظمة والجيوش النظامية بذلك.
ومع مرور الوقت أصبح المطلب الأساسي هو رفع الحصار وإيصال المساعدات الإنسانية، مع محاولة توجيه اللوم والسخط تجاه دول عربية بعينها بعيدا عن أسّ المشكلة: الاحتلال وداعميه.
ثم أصبحت الدعوى المُقامة أمام محكمة العدل الدولية هي بؤرة الاهتمام، وبالمثل القرارات الأممية وقرارات مجلس الأمن و"الفيتوهات" الأميركية المتكررة.. وصولا إلى اللحظة الحالية التي أصبح فيها موضوع "الجسر البرّي" يتصدّر واجهة المطالبات والهتافات والشعارات.
حتى الحديث عن مقاطعة المنتجات الغربية والداعمة للاحتلال قد بهت، وأصبح يجري بصوت خافت وعلى استحياء.
وفي ضوء "تطنيش" أصحاب القرار، وعدم تحقيق الحِراك الشعبي أي إنجازات ملموسة على أرض الواقع، طُرح موضوع "الإضراب العام" لمرّة واحدة فقط، ولكن سرعان ما وُئد هذا الخيار في مهده في ضوء الاستنفار الكبير الذي أبدته أجهزة الدولة ضدّه، ورسائل التهديد والوعيد المبطّنة والصريحة التي وجهتها بهذا الخصوص.
الكلام أعلاه لا يعني التشكيك في نوايا الحِراك الشعبي أو جدواه، أو الإيحاء أنّ قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني ليس مطلبا وجيها ومهما في حدّ ذاته، وكذلك الأمر بالنسبة لرفع الحصار، أو إدخال المساعدات، أو استصدار قرارات أمميّة بعينها، أو وقف الجسر البرّي.. وغيرها من الإجراءات المشابهة، ولكن هذه جميعها "نتائج"، والتخلّص من النتائج لا يكون إلا بعلاج أصل المشكلة.
كما أنّ الأصول الاحترافية للتفاوض تُملي عليك أن ترفع سقف مطالبك دائما حتى تضمن تحقيق الحدّ الأدنى المقبول منها!
بمعنى، إذا أردتَ أن تُقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني بالفعل فينبغي عليك أولا أن تطالب بإعلان الحرب عليه، بحيث يكون قطع العلاقات هو الحدّ الأدنى المقبول الذي يمكن التوافق عليه لاحقا.. وهكذا دواليك!
وما يسري على الحِراكات والمطالبات الشعبية يسري بالضرورة ومن باب أولى على دول وأنظمة الشجب والندب والاستنكار التي تدّعي هي الأخرى أنّها تريد وقف الحرب ورفع الحصار ووقف المعاناة.. فهي أيضا يجب أن ترفع سقفها وليس فقط صوتها إذا أرادت أن تتحقق مطالبها!
والغريب أنّ المقاومة قد أعطت الجميع خلال الـ (145) يوما الماضية دروسا عمليّة قيّمة حول أصول التفاوض وكيفية إدارة المفاوضات.. ولكن للأسف يبدو أنّ أحدا لم يتعلم الدرس!
والخشية إذا استمر الحال على هذا المنوال أن يصبح النجاح في إدخال حفنة من المساعدات هو قمّة البطولة، وأن يصبح فتح الحدود والسماح بالتهجير هو "الإنجاز" الوحيد الممكن والمتاح والقابل للتحقيق بعد أن تُركت سياسة القتل والتدمير والتجويع والتعطيش و"الاستنزاف" لتستمر وتتواصل إلى أن تبلغ مداها وتحقق أغراضها، وبحيث لا يعود هناك بدٌّ من التهجير من أجل إنقاذ حياة مَن تبقّى على قيد الحياة!
وطبعا الذين يخرجون للتظاهر الآن سيخرجون للتظاهر ساعتها، وسيطالبون بوقف التهجير بعد أن يكون التهجير قد أصبح أمرا واقعا بالفعل، وسيكون تظاهرهم بمثابة ذرّ رمادٍ في العيون!
خلاصة الكلام، "الجسر البرّي" ليس عارا، العار هو أن يصبح وقف الجسر البرّي هو سقف التوقّعات وأقصى طموح، ونفس الكلام يسري على بقية المطالب!
ارفع سقفكَ و"عرّض كتافك".. هذه ببساطة أصول التفاوض والحِراك الشعبي الفعّال، ولكن هناك على ما يبدو مَن يخشى أن تعتبر السلطات ذلك بمثابة "تكبير راس"، وعندها تصبح "حط راسك بين الروس" هي السياسة الأسلم!
وبالمثل، يبدو أنّ الأنظمة العربية والإسلامية تخشى أن "تكبّر راس" أمام أميركا والكيان الصهيوني، لذا تراها تنتهج سياسة "امشِ الحيط الحيط وقول يا ربّ الستر"، أو سياسة "داري على كرسيك يقيد"، أو سياسة "١٠٠ إخص ولا الله يرحمه"، مع أنّ المطلوب منها فقط انتهاج سياسة "دقّة على الحافر ودقّة على المسار".. وذلك أضعف الإيمان!