مسلسلات رمضان ومجمع الشفاء وعقلية الترند!
كمال ميرزا
جو 24 :
فلنفترض أنّ الكيان الصهيوني رضخ، ولنفترض أنّه قبل بشروط المقاومة، ولنفترض أنّه سمح بعودة أهالي غزّة إلى شمال القطاع.. إلى ماذا سيعود هؤلاء؟
أين سينامون؟
كيف سيتدبرون احتياجاتهم الأساسية؟
من أين سيحصلون على العلاج والرعاية الطبية؟
من هنا إلى أن يُعاد إعمار غزّة، أو على الأقل الشروع بإعادة إعمار غزّة، وحسم أسئلة: هل سيُعاد إعمار غزّة أساسا؟ ومَن سيموّل إعادة الإعمار؟ ومَن سينفّذ إعادة الإعمار؟ ووفق أي شروط و"إملاءات" سيتمّ ذلك؟.. كيف سيتدبّر أهالي غزّة العائدون حياتهم؟
هل ستقام لهم منازل عائمة؟
هل ستقام لهم بُنى تحتية عائمة؟
هل ستقام لهم "اونوروا" عائمة؟
هل ستقام لهم مستشفيات ومجمّعات طبيّة عائمة؟
أم أنّ الحلّ السهل والعملي والسريع والقابل للتطبيق الفوري هو أن يعوموا جميعا عبر الميناء العائم إلى حيث يمكمن أن يجدوا جميع هذه المتطلبات؟
من الآثار السلبية المترتبة على العيش في زمن الاتصال الجديد، والإعلام الجديد، و"الفضاء التواصلي" باعتباره "المجال العام"، و"السوشال ميديا" باعتبارها "الفضاء التواصلي".. سيطرة عقلية الترند (trend) على عقول وأمزجة الناس.
إنسان عصر الرقمنة المتصفّح هو شخص ملول، يحتاج كلّ يوم إلى ترند جديد، وهاشتاغ جديد، وتقليعة جديدة، وحبذا لو كانت غريبة أو مُفرطة أو جدليّة تُحاكي الحبكات الهوليوودية وحبكات النتفلكس!
ويستوي في هذا "المزاج التواصلي" الجميع، من "أديَن" متديّن.. إلى "أوطَن" وطنيّ.. إلى أثقف مثقّف.. إلى أنشط ناشط سياسي وحقوقي.. إلى أتفه تافه يتسقّط أتفه التفاهات عبر بحر تفاهة الشبكة المتلاطم!
ولكن للأسف في غزّة لا يوجد هناك ترندات وهاشتاغات جديدة تلبّي ذوق الجمهور المتقلّب، أو تصلح "ثيمة" لـ "عواصف إلكترونية" نحرر بها فلسطين ونحن جالسون في بيوتنا!
الترند منذ اليوم الأول كان الإبادة والتهجير، والآن بعد مضي (170) يوما ما يزال الترند "الممل" هو هو: الإبادة والتهجير!
وكلّ ما حدث ويحدث عبر هذه الأسابيع والشهور لا يخرج عن إطار الإبادة والتهجير، ولا يمكن قراءته إلا في إطار الإبادة والتهجير
الشجب.. الندب.. الاستنكار.. المناشدات.. المطالبات.. الدبلوماسية المسرحية.. الإغاثة الأكثر مسرحيةً.. الخلافات المُفتعلة والمُفبركة.. تقاسم الأدوار.. الميناء العائم.. اجتماعات "بلينكن" وما يتخللها من توزيع مهام أو تحديث لمنافيست المهام السابق.. كلّ هذا لا يُقرَأ إلا في إطار الإبادة والتهجير، والترتيبات المنشودة والمزمعة لـ "اليوم التالي" بعد الإبادة والتهجير!
وعودة الكيان الصهيوني للعب ورقة "مجمع الشفاء" المحروقة هي استمرار ومواصلة ومضيٌّ قُدُمَا في الإبادة والتهجير، وعدم إبقاء أي مَعْلم أو مُقوّم من مقوّمات العيش يمكن أن يعود إليه النازحون، أو قابل للصيانة وإعادة التشغيل السريع في حال عادوا فعلا!
وبعد مجمع الشفاء سيأتي الدور غالبا على باقي مستشفيات شمال غزّة وسائر المرافق العامّة والبُنى التحتية هناك، ليس فقط لإخراجها عن الخدمة، فغالبيتها هي خارج الخدمة عمليّا، بل لتسويتها نهائيا بالأرض، أو على الأقل للقضاء على أي إمكانية للاستفادة منها في المدى المنظور بحيث يضطر أهالي غزّة للقبول بخيارات وبدائل أخرى!
وطبعا لا حاجة للكيان للإتيان بكذبة جديدة لتبرير استهدافه الحالي لمجمع الشفاء الطبي، فالكذبة القديمة تكفي حتى لو لم يصدّقها أحد، وحتى لو تمّ إشباعها تفكيكا وتفنيدا.. لماذا؟
أولا لأنّ الكيان يلتزم بمبادئ الدعاية الحربية بحذافيرها؛ فإذا كذبتَ كذبةً ما فيجب أن تتمسّك بكذبتك حتى النهاية، وأن تستمر بترديدها وإعادة التأكيد عليها على الطريقة النازيّة/ الغوبلزيّة من خلال الكذب والكذب والمزيد من الكذب.
وثانيا بما أنّ الكذبة قد مرّت بسلام أول مرّة دون عقاب (باستثناء الشجب والندب والاستنكار) فلماذا نغيّرها؟! بالعكس، طعم الكذبة في المرّة الثانية سيكون أجمل وألذّ: أنا أكذب عليكم، وأنتم تعلمون أنّني أكذب عليكم، وأنا أعلم أنّكم تعلمون أنّني أكذب عليكم.. ومع هذا فأنتم مضطرون للتعاطي مع كذبتي ولا تستطيعون أن تفعلوا شيئا حيال ذلك!
للأسف فإنّ الورقة الأقوى في يد الكيان الصهيوني، والضمانة التي تتيح له ولعصابة حربه الاستمرار في مهمته القذرة والاستمرار في الكذب، هو هذا الإحساس بـ "الأمان"، الأمان من العقوبة، وهو الأمان النابع ليس فقط من الغطاء والدعم اللذين توفّرهما أميركا باعتبار أنّ الكيان يخوض الحرب من أجلها ويُنجز هذه المهمة القذرة بالنيابة عنها.. بل هو نابع بشكل أساسي من سكوت الأنظمة العربية، وتخاذلها، وتواطؤها، إمّا خوفا على كراسيّها وعروشها، أو أملا بالمكافأة، أو طمعا بأن يطال صانعي قرارها ونخبها نصيب ولو فتات من بركات السلام الاقتصادي الموعود!
وفي هذه الأثناء، ما تزال الجماهير العربية الحاشدة المشغولة بمسلسلات رمضان وإعلاناته وطبخاته وعروضه وحملاته وجوائزه وترنداته وهاشتاغاته.. ما يزالون ينتظرون تحديث ترند غزّة وهاشتاغ "طوفان الأقصى" حتى يعودوا إلى حماسهم الأول ونضالهم الإلكتروني المُظفّر!