تصريحات الاردن الرسمية الاخيرة والحاجة الى إحياء نظرية الأمن القومي العربي
كمال ميرزا
تصريحات الأردن الرسمية الأخيرة، سواء من حيث التأكيد على أنّ الأردن لن يكون مسرحاً لأي حرب إقليميّة يفكر هذا الطرف أو ذاك بإشعالها، أو من حيث أنّ الأردن لن يسمح بأن تكون سماؤه وأجواؤه ممرّاً لمسيّرات وصواريخ أيّ طرف كان، هي بمثابة جرس إنذار لإعادة التأكيد على أربع نقاط أساسية نزع الغالبية بوعي أو دون وعي إلى إغفالها وتناسيها خلال العقود الأخيرة:
الأولى، ضرورة إحياء نظرية الأمن القومي العربي والتضامن العربي في وجه أيّ مشاريع تحتفظ بها أيٌّ من القوى الإقليمية والدولية في جعبتها للمنطقة.
الثانية، أنّ الأردن بحكم الجغرافيا والديمغرافيا والتاريخ هو ركن أساسيّ في أيّ نظرية للأمن القومي العربي.
الثالثة، أنّ القضية الفلسطينية هي في الجوهر والصميم من أيّ نظرية للأمن القومي العربي.
الرابعة، أنّ "أمن إسرائيل" هو بمثابة خط أحمر بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين، ودفاعهم - أو عدم دفاعهم - المحتمل عن أمن أي نظام عربي أو دولة قُطْريّة عربية هو بمقدار ما يصبّ ذلك في نهاية المطاف في "أمن إسرائيل".
وعندما نقول "الأمن القومي العربي" فإنّ المقصود هو الأمن بمفهومه الشامل، بعمقه الإسلامي والإنساني، وبأبعاده الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وليس فقط الأمن بمفهومه العسكرتاري المباشر الذي هو على أهميته يمثّل فقط رأس جبل الجليد بالنسبة لأيّ مشروع متكامل للأمن القومي.
طبعاً الكلام عن "الأمن العربي" و"التضامن العربي" لم ينقطع يوماً، ولكنّه كلام كان يشوبه غلبة النزعة القُطرية لدى البعض، والتنافس القَبَلي الذي يصل أحياناً حدّ التناحر على تقلّد مواقع رياسيّة (من رياسة) أو زعاميّة (من زعامة) أو تفضيليّة ضمن منظومة التكامل العربي، الأمر الذي أسهم في تفريغ مقولتي "الأمن العربي" و"التضامن العربي" من مضمونهما، وفتح المجال لقوى دولية وإقليمية للتسلل والتغلغل من أجل ملء الفراغ، أو محاولة الدخول "بين البصلة وقشرتها" كما يقول التعبير العربي الدارج.
وفي السنوات الأخيرة شهدنا محاولة البعض ترويج مشروع أمنيّ جديد تحت عناوين برّاقة مثل "الدفاع المشترك"، ووعود ورديّة بالاستقرار والرخاء والازدهار، ولكن هذا المشروع جاء أقرب إلى "حلف بغداد" جديد منه إلى مشروع أمن قوميّ عربيّ حقيقيّ، وقد فات المبشّرين بهذا المشروع والمراهنين عليه أنّ "حلف بغداد" هو نموذج سبق للشعوب العربية أن قالت كلمتها فيه، ورفضته ونبذته وتجاوزته منذ وقت طويل رغم ما مرّ ويمرّ بها من نكبات ونكسات وخيبات وفصول خريف متنكّرة في زيّ ربيع.
في المقابلة المطوّلة التي أجراها "فيك فانس" و"بيار لوير" مع الملك الراحل "الحسين بن طلال" حول حرب الـ 67، وصدرت في كتاب بالفرنسية عن دار "البان ميشال" بعنوان "حربنا مع إسرائيل"، وترجمته إلى العربية "دار النهار للنشر"، يقول الملك الحسين:
"ألم يكن بإمكان الأردن أن يبقى خارج النزاع كما قيل لي غير مرّة بعد حرب حزيران؟
لا، في حزيران كنّا مرتبطين جميعاً بميثاق دفاعي عربي تمّ التوقيع عليه في القاهرة في مؤتمر القمة العربي الأول. ولم ينقض أحد هذا الميثاق أو يتنكر لأحكامه حتى بعد الخلافات التي قامت في مؤتمر القمة العربي الأخير في الدار البيضاء.
وعلى أي حال، حتى لو لم يكن هذا الميثاق قائماً، فالقضية تصبح قضيتنا جميعاً إذا نشبت الحرب، هذا ما علمتنا إياه التجارب" (انتهى الاقتباس).
وتجارب الأمس ما تزال تشبه تجارب اليوم وإن اختلفت الوجوه والأسماء والتفاصيل، ودروس الأمس ما تزال سارية وصالحة لأخذ العبرة منها في التعامل مع تجارب وأحداث وتحدّيات وتهديدات اليوم.
لذا فإنّ "طوفان الأقصى"، وتتالي الأحداث المتسارع خلال الأشهر الستة التي أعقبته، وصولاً إلى الهجوم الصهيوني على القنصلية الإيرانية في دمشق أملاً بالخروج من "مأزق غزّة" وتوسيع رقعة الحرب، والردّ الإيراني من خلال عملية "وعده الحقّ"، وتصريحات الأردن الرسمية الأخيرة المشار إليها أعلاه.. هي فرصة مفصليّة لاستدراك درس التاريخ، وإعادة إحياء مشروع الأمن القومي العربي والتضامن العربي بكل ما تحمله الكلمتين من معاني النديّة والاستقلالية والإرادة الحرّة، سواء أكنّا من أنصار "نظرية المسرحية"، أو نظرية "المؤامرة الكونية"، أو نظرية "المنعطف الوجودي"، أو غيرها من النظريات التي لن تُسمن ولن تغني من جوع في حال "فات الفوت"، وتركنا الحبل على الغارب يشدّه كلّ طرف لمصلحته كيفما يشاء، واكتفينا بلعب لعبة التلاوم والتخوين بعد أن تكون الفاس قد وقعت بالراس!