احذروا الفخ الأمريكي!
كمال ميرزا
جو 24 :
أمريكا كانت تستطيع وقف حرب الإبادة والتهجير التي يشنّها الكيان الصهيونيّ على الشعب الفلسطيني منذ اليوم الأول، ومنذ الأسبوع الأول، ومنذ الشهر الأول.. ولكنّها لم تفعل، بل عملت على رفد ماكينة الحرب الصهيونية بالدعم العسكريّ والسياسيّ والإعلاميّ المفتوح ليتسنّى له الإمعان في غيّها وإجرامها..
وبعد الهدنة الأولى بات واضحاً وضوح الشمس أنّ أمريكا هي أكثر طرف لا يريد وقف القتال، وأنّ الحرب على غزّة قد أضحت فعليّاً حرباً أمريكيةً يخوضها الكيان الصهيونيّ بالوكالة.
أمريكا أرادتها حرب استنزاف:
استنزاف للمقاومة الفلسطينية ومقدّراتها، ولحاضنتها الشعبية وإرادة الصمود والاستمرار لدى الشعب الفلسطيني ومناصريه والمتعاطفين معه..
واستنزاف لليمين الصهيوني المتطرّف، وحرق لأوراقه، بكونه الممانع الحقيقيّ الوحيد للمخططات الأمريكية في المنطقة الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وفرض تسوية نهائية، وإعادة تعريف الدور الوظيفي لـ "إسرائيل" ودمجها في محيطها العربي، وإنهاء حالة الصراع العربي - الإسرائيلي بكونها ثيمة استُنفِدَت وما عادت منتجة لآثارها، والاستعاضة عن الدور "الإسرائيلي" بصيغة أقرب إلى الاستعمار العسكري المباشر من خلال القواعد الأمريكية التي باتت سرطاناً مستشرياً في المنطقة.
واستنزاف للأنظمة العربية التي يفترض أنّها صديقة وحليفة لأمريكا، مع أنّ العرب متماهين تماماً مع التصوّرات والمخططات الأمريكية منذ أن وقّعوا مبادرة السلام العربية سنة 2002، واستنفاد رصيد هذه الأنظمة المتهالك أساسا أمام شعوبها، وإظهارها بمظهر العاجز أو المتخاذل أو المتواطئ أو العميل، وبحيث لا يبقى هناك خيار أمام هذه الأنظمة سوى المزيد من التمسّك بالسيد الأمريكي والتماس رضاه وعدم رفعه يده وغطاءه عنها.. بكون هذا هو مصدر "الشرعية" الوحيد المتبقّي لدى هذه الأنظمة لضمان استمرارها وعدم كشف أوراقها على الملأ!
هذا الأسلوب الشيطانيّ ليس جديداً على الشيطان الأكبر أمريكا.
سبق وأن فعلتها في الحرب العالمية الثانية عندما تركت جميع الأطراف "تنهنه" بعضها البعض، ثم تدخّلت هي في نهاية الحرب لتقطف ثمار النصر وتفرض شروطها وهيمنتها وتسيّدها للعالم الغربي خلفاً للإمبراطورية البريطانية المتداعية.
وفعلتها في الحرب الكورية عندما تركت الأشقاء في شبه الجزيرة الكورية يفتكون ببعضهم البعض، قبل أن تتدخّل وتكرّس تقسيم كوريا إلى كوريّتين.
وفعلتها في أفغانستان حين تركت مجاهدي "البترو - دولار" يرهقون الاتحاد السوفييتي ويخرجونه، ثمّ يرهقون ويستنزفون بعضهم البعض، قبل أن تُقدم على مخططها اللاحق بغزو أفغانستان بنفسها.
وفعلتها في العراق عندما أقحمته هو وإيران في مواجهة عبثية على مدار سنوات لم ينجم عنها سوى استنزاف الموارد وتربية المزيد من الضغائن والأحقاد والثارات وعوامل الانقسام، ثمّ انقضّت عليه لتدمّر جيشه، وتضع يدها على نفطه ومقدّراته، وتؤسس لنفسها وجوداً عسكريّاً لم تكن تحلم به من قبل على التراب العراقي.
وفعلتها في يوغسلافيا السابقة التي جعلت منها مختبراً لطروحات "نهاية التاريخ" و"صدام الحضارات" و"القطب الأوحد"، وأعادت من خلالها إنتاج هيمنتها على القارة الأوروبية العجوز المستمرة منذ الحرب العالمية الثانية و"مشروع مارشال".
وفعلتها في سوريا عندما نشرت فوضاها الخلاّقة من خلال ثورات الربيع العربي البرتقالية، لتدخل بعدها وتحتل شرق الفرات بنفطه وموقعه الإستراتيجي.
والاستثناء الوحيد في هذا السياق هو "حرب فيتنام" التي اضطرت أمريكا أن تدخلها مباشرة ومبكراً لتعذّر التعويل على الاقتتال الداخلي بين شطري فيتنام في تحقيق الغرض منه، وهي للمفارقة الحرب الوحيدة التي مُنيت فيها أمريكا بهزيمة صريحة وبائنة بينونة كبرى، وخرجتْ من هناك وهي تجرّ أذيال الخيبة و"قفاها يقمّر عيش" دون تحقيق أي مكتسبات إستراتيجية تذكر.
وطبعاً في كلّ مرّة لم تعدم أمريكا الحجّة والذريعة لتبرير تدخّلاتها ومغامراتها العسكرية القذرة؛ فتارةً من أجل محاربة النازية، وتارةً من أجل محاربة الشيوعية، وتارةً من أجل محاربة الإرهاب، وتارةً من أجل نشر الديمقراطية، وتارةً من أجل "الشرعية"، وتارة من أجل حقوق الإنسان!
والآن بعد أكثر من سبعة أشهر من الإجرام والقتل والدمار في غزّة يبدو أنّنا أمام فخّ أمريكيّ جديد، والعنوان هذه المرة هو "الضمانات" الأمريكية.
البعض يفسرون اللوثة الأمريكية الحالية لفرض اتفاق هدنة طويل الأمد في غزّة تكون أميركا هي "الضامن" الرئيسي له من قبيل الدعاية الانتخابية، ومحاولة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" وإدارته الديمقراطية الحالية تحسين صورتهم وتسجيل إنجازات سياسية في رصيدهم قبيل الانتخابات الرئاسية نهاية العام الجاري.. ولكن هذا فهم سطحي ومضلّل لما يحدث.
فإنجاز "بايدن" وإدارته كان سيكون أكبر لو أنّهم نجحوا في إرساء التهدئة في وقت أبكر قبل أن تتفاقم الأمور، وقبل أن يصل البلل إلى الجامعات الأمريكية والداخل الأمريكي، فالضرر من منظور دعائيّ وانتخابيّ قد وقع، ولا مجال لتداركه، وفاتورة تداركه هي أكبر من المردود الانتخابي الذي يمكن أن يتحصّل عليه "بايدن" والديمقراطيين.
في المقابل، اللوثة الأمريكية لإنجاز اتفاق هدنة يقوم عليه بشكل حثيث مدير الـ CIA شخصيّاً تتزامن مع انتهاء العمل في الميناء الأمريكي في غزّة، أو ما يطلق عليه تمويهاً وتزييفاً "الميناء الإنساني العائم".
والسؤال هنا: في حال تمّ بالفعل التوصّل إلى اتفاق هدنة، كيف ستضمن أمريكا هذا الاتفاق ضدّ أي خرق يقترفه هذا الطرف أو هذا الطرف دون تواجد عسكريّ فعليّ لها على الأرض؟ وهل ستعدم أمريكا حجّةً أو اختلاق فيلم محروق لتبرير تواجدها العسكريّ على تراب غزّة كتعرّض مينائها الإنسانيّ للقصف أو لهجوم "إرهابيّ" على سبيل المثال؟!
الكلّ يتحدثون عن غزّة، وعن الميناء الأمريكي العائم، ويتناسون القاعدة السريّة الكبرى التي شرعت أمريكا ببنائها بالفعل في النقب حتى قبيل "طوفان الأقصى". ولو نظرنا إلى هذه القاعدة، مع الميناء العائم الذي يمثّل امتداداً لهذه القاعدة وبوابة إمداد بحريّ لها، مع محور "نتساريم" الذي يصل بينهما (والمرشّح لأن يكون محور تمركز لأيّ قوات حفظ سلام مستقبلية).. لوجدنا أنفسنا أمام نسخة مصغّرة من شرق الفرات السوري على التراب الفلسطيني!
انظروا إلى خارطة انتشار القواعد الأمريكية في المنطقة بعد احتلال شرق الفرات، وبعد توقيع اتفاقية التعاون العسكريّ مع الأردن، وأضيفوها إلى القواعد الموجودة أصلا في العراق ودول الخليج، ستجدون أنّ هذه القواعد تشكّل جداراً متواصلاً يمتد من قاعدة "انجرليك" في الشمال وصولاً إلى مضيق هرمز في الجنوب.
هذا الجدار يمثل سدّاً أمام أيّ مشروع قادم من الشرق، سواء المشروع الإيراني، أو المشروع الصيني ممثّلاً بمبادرة الحزام والطريق، أو مشروع "دول البريكس" الآخذ بالتوسّع والتمدّد.
ولكن في هذه الخارطة نجد أنّ هناك نقصاً يمثل ثغرة "خطيرة" في منظومة "مخافر الحارات" التي يعمل "الفتوّة" الأمريكيّ على إنشائها منذ أكثر من عشر سنوات من أجل فرض "الإتاوات" وحماية مصالحه والحفاظ على نفوذه المتقهقر وهيمنته المتآكلة.. وهو وجود قاعدة عسكرية على مرمى حجر من قناة السويس أهم ممر تجاريّ مائيّ في العالم، وعلى مرمى حجر من سيناء والمحاولات المصرية لدمجها في الجسد المصري بعد تحريم وقطيعة، وعلى مرمى حجر من "نيوم" المشروع الذي تعوّل عليه السعودية لتحقيق نوع من الانعتاق الاقتصاديّ، وعلى البوابة الشمالية للبحر الأحمر الذي "يفتقر" لوجود عسكريّ أمريكيّ كثيف، وفي القلب من أيّ مشاريع كبرى قد تفكر بعض الدول والقوى الإقليمية بإنشائها لتحقيق نوع من الازدهار الذاتيّ والالتفاف على الجدار الأمريكي في الشرق، كالمشروع الهندي السعودي الإسرائيلي، أو المشروع الإماراتي الإسرائيلي، أو مشروع النقل البريّ العربيّ العربيّ!
طبعاً المقاومة أثبتت مرّة أخرى أنّها تنظر إلى الأمام وتسبق الجميع بخطوة أو خطوتين عندما طالبت بإدخال روسيا والصين وتركيا ضمن ضامني أي اتفاق مستقبلي للهدنة، وهي تعلم استحالة موافقة أمريكا على ذلك، ولكنّها بهذا المطلب حفظت لنفسها خطّ الرجعة، وإمكانية التحلّل من أيّ التزامات قد تقيّدها أو تُستخدم ضدّها في حال حاولت أميركا إساءة استغلال وتوظيف ضمانتها!
باختصار، لقد سبق التحذير مراراً وتكراراً من الشرف الذي يهبط على أصحابه فجأةً، فما بالنا عندما يهبط هذا الشرف على أمريكا، "رأس الحيّة"، ومعقل الصهيونيّة الأنجلو سكسونيّة ورأس حربتها وقوّتها الضاربة في هذه الحقبة من الزمان؟!