الاستثمار في القدس بين الجد والهزل
يحلو لكثير من رجال أعمال ولجهات ومؤسسات وصناديق وشركات استثمارية أسست خصيصا كما قيل للاستثمار في القدس أن يداعبوا ويتناقشوا ويتنافسوا ويتناظروا ويتحدثوا بين الفترة والأخرى حول جدوى وأهمية الاستثمار فيها.
فالعديد العديد منهم يهوى الكلام والمقابلات الصحفية والتي يطلق خلالها تصريحات قوية تجعل من يقرأها أو يسمعها أو يشاهدها يعتقد بأن الاستثمارات في القدس تسير على قدم وساق وبوتيرة عالية ونشطة تتسع وتمتد لتشمل كل القطاعات بحيث لا يبقى ركنا أو زاوية أو نشاطا إلا ويشهد نموا واستثمارا مستمرا . ولهذا الغرض تعقد المقابلات الصحفية والندوات والورش وأحيانا المؤتمرات الاقتصادية في الداخل والخارج ويشد الرحال بين الفترة والأخرى إلى الدوحة وغيرها من العواصم لمناقشة الاستثمار في القدس بما في ذلك الحصول على مساعدات تمويلية أو أقامة صناديق متخصصة لهذا الغرض . لكن أحدا لم يجرؤ بعد على القول بأن معظم الوفود تعود خالية الوفاض أو كما يقال بخفيَ حنين.
جميع المقدسيين الذين يسمعون هذه التصريحات يضحكون ويستغربون كثيرا من مطلقيها لكونها ليس فقط غير صحيحة وإنما تعكس حالة من التناقض بين القول المصحوب بالتصريحات الكثيرة والفعل شبه المعدوم . فالمقدسيون يسمعون صوت تشغيل ماكينات الطحن ولكنهم لم يروَ الطحين بعد، وهم على هذا الحال منذ قدوم سلطتهم الوطنية عام 1994.الجانب الأخر من المأساة أن مساحة القدس صغيرة جدا وهي كالصلعة تشاهد من كل الجهات الأربع فكيفما تضربها يسيل دمها. بمعنى لو أن كل التصريحات التي يطلقها مدراء ومسئولي ومفوضي هذه الشركات وصناديق الاستثمار وجدت طريقها أو نصفها للتنفيذ لكانت القدس الشرقية الآن مركزا استثماريا كبيرا ونقطة استقطاب وجذب للمقدسيين للعمل فيها ولساهمت في حل مشكلة البطالة المتزايدة والمتفشية بين شبابها وخريجيها. فحينما تؤسس شركات برؤوس أموال كبيرة خصيصا للاستثمار في القدس ويمضي على مباشرة أعمال بعضها أكثر من عقد من الزمان ولا يوجد لها حتى مقرا في القدس، فلا عجب أن يعتبرها المقدسيين نوعا من الهزل أو الدعابة أو النكتة التي لا تستحق حتى أن يبتسموا لها. الحديث عن الاستثمار في القدس بات نوعا من الترف الفكري والتنزه،فمن له ساعة فراغ لا يعرف كيف يقضيها يذهب لعقد مؤتمر أو مقابلة صحفية يتحدث فيها عن ضرورة الاستثمار في القدس ويدعو الآخرين لفعل ذلك وتنشر صوره في الصفحات الأولى ، وكفى الله المؤمنين شر القتال بعدها ،وهنا بمعنى شر الاستثمار ويرفع بعدها العتب واللوم.
لم يعد المقدسيون يعيرون مثل هذه التصريحات أية أهمية تذكر ،فهي كما يقولون "كلام ومطيروا الهوا" أو كلام جرايد .وآخر خبر شبه مضحك يتناقله المقدسيون في هذه الفترة أن شركة قابضة كبيرة تفتقت قريحتها أخيرا بتحويل سوق البازار في القدس القديمة إلى مطعم واستراحة!!!! وكأن القدس ينقصها المطاعم.لا ادري لماذا لم يتم تحويلها إلى مجمع للصناعات الحرفية مثلا.فمن الغريب وغير المنطقي أن تنافس شركة كبيرة قابضة رأسمالها بعشرات الملايين من الدولارات الحقيقية أصحاب المطاعم الصغيرة والمتوسطة في القدس الشرقية؟لماذا لم تتجه إلى الاستثمار الإنتاجي وهو متاح ومربح كالإسكان على وجه التحديد ، فالربح فيه يصل إلى أكثر من 100% في المائة . من حق المقدسيين أن يضعوا علامات استفهام حول جدية الاستثمار في القدس.
فحينما يتبع القطاع الخاص الفلسطيني أسلوب ونهج الحكومة والسلطة اللتان ما فتئتا تصرحان ليلا ونهارا عن أهمية القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية دون أن تفعلا لها شيئا أو تترجم أقوالها إلى برامج عمل فإنه بذلك – أي القطاع الخاص- يتحول بدوره إلى أبر مورفين إضافية لتخدير المقدسيين فحسب.
لا نريد المزايدة في موضوع القدس، لكني أتمنى من كل قلبي وعقلي أن تقوم الشركات المساهمة العامة والقابضة وصناديق الاستثمار بنشر قائمة باستثماراتها في القدس. فالماء تكذب الغطاس كما يقولون. فالقدس عروس عروبتنا كما يقول مظفر النواب وليس فقط عاصمة دولتنا المنشودة، فلماذا نريد أن نزيد وجعها وألمها ومأساتها عبر تصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع.ألا يكفي ما يفعله الاحتلال فيها ؟؟ . الاستثمار في القدس يجب أن لا يكون للدعابة والتسلية والتنزه والهزل ولقتل وقت الفراغ لدى بعض رجال الأعمال وتباهي وتغندر رؤساء بعض صناديق الاستثمار. فالقدس تحتاج إلى استثمار حقيقي وفعلي يلمسه المقدسي ويراه بأم العين، وبخلاف ذلك فالسكوت أفضل وأرحم لنا وللقدس. اللهم هل بلغت فاشهد.