في تعريف "السقاطة": تأصيل سوسيو-ثقافي!
كمال ميرزا
جو 24 :
"الساقط" أو "السقيطة" في الاستخدام المتداول تعني الشخص الوضيع، متدني الإحساس بالعيب والعار، المستعدّ لهدر كرامته وسفح ماء وجهه في سبيل تحقيق مكتسبات هي غالباً رخيصة وحِسّية وحيوانيّة، ولا يصلح لأن تشدّ به ظهرك، أو تأمنه على سرّك ومالك وعرضك، أو تتخذه خليلاً، أو تثق به رئيساً أو مرؤوساً!
باختصار يمكن القول أنّ "الساقط" هو الشخص الذي سقط في امتحان الشرف والمروءة.. وطبعاً يستوي في ذلك الذكور والإناث، وإن كانت سقاطة الذكور في الشأن العام هي عادةً أشدّ وطأةً وانحطاطاً.
المشكلة أنّ "الساقط" لا ينتمي إلى فئة اجتماعية معينة أو طبقة بعينها..
يمكن أن يكون الشخص نظريّاً ابن حسب ونسب وعشاير وحمايل ولكنّه ساقط..
ويمكن أن يكون صاحب سلطان وصولجان وهيلمان ولكنّه ساقط..
ويمكن أن يكون ثريّاً فاحش الثراء وواسع الرزق ولكنّه ساقط..
ويمكن أن يكون أكاديميّاً قديراً أو مثقّفاً فذّاً أو إعلاميّاً لامعاً أو فناناً مبدعاً أو رياضيّاً مشهوراً ولكنّه ساقط..
ويمكن أن يكون متديّناً يلتزم بكافة مظاهر التديّن ويؤدي جميع الشعائر والطقوس ولكنّه ساقط..
أي أنّ الساقط يمكن أن يكون أيّ شخص في المجتمع: أنا وأنت، وأخي وأخوك، وأبي وأبوك، وعمّي وعمّك، وخالي وخالك، وجاري وجارك، وصديقي وصديقك، وزميلي وزميلك، والحاكم والمحكوم، والآمر والمأمور، والسائل والمسؤول.. الخ الخ الخ.
من هنا تأتي المعضلة فيما يتعلق بسَقَط المجتمع:
فأولاً من الصعب على أيّ شخص أن يتقبّل فكرة أنّ أحداً قريباً أو عزيزاً عليه، أو شخصاً رفيع المقام، أو شخصاً صاحب علم وفكر وإبداع، أو شخصاً ظاهره التُقى والورع.. يمكن أن يكون ساقطاً، أو أن يقرّ بأنّه هو نفسه ساقط!
وثانياً هذا يضفي صعوبة على كيفية التعرّف على الشخص الساقط وتمييزه عن الأشخاص "الغانمين"، أو حتى تمييزه عن ضروب أخرى من أنماط السلوك الوضيع مثل "النذل" أو "الخسيس"!
القدرة على تشخيص معادن الناس هي مسألة مُلحّة وحيوية وأساسية في العلاقات الإنسانية، سيما وأنّ "إللي بمشي على إجريه ما بنحلف عليه"، ولكن بمقدار ما أنّها مسألة مهمة هي في نفس الوقت صعبة وشائكة وعويصة!
هناك مَن يعتمدون على إحساسهم، ولكن الإحساس غالباً منحاز أو خدّاع أو انتقائي ولا يمكن التعويل عليه.
وهناك مَن يعتمدون على فِراستهم، ولكن الفِراسة هي مَلَكَة حصرية لا يتمتع بها غالبية الناس.
وهناك مَن يعتمدون على الفطرة السليمة، ولكن مَن قال لك أنّ فطرتك سليمة أساساً؟ كما أنّ الفطرة السليمة من السهل أن تُطمس أو تُحرَف أو تُضلَّل في ضوء تراكم الخبث وعموم البلوى وفساد التعليم والإعلام والسياسة!
المطلوب هو طريقة واضحة ومحددة وسهلة ومباشرة يستطيع أي شخص اتّباعها والتعويل عليها في التعرّف على الشخص الساقط من أول نظرة.
جميعنا سمعنا بالقصة المأثورة عن عمر بن الخطاب، وسؤاله لشخص أثنى على شخص آخر في مجلسه:
لعلّك جاره؟
لعلّك صاحبتَه في سفر؟
لعلّك تاجرتَ معه؟
لعلّك رأيتَه في المسجد يهزّ رأسه قائماً وقاعداً؟
من حيث المبدأ هذه الأسئلة تصلح لأن تكون معايير للتعرّف على معادن الأشخاص، ولكن مشكلتها أنّها معايير بعديّة، أي أنّها مبنيّة على التجربة والخطأ ولا تؤتي ثمارها إلا بعد أن تكون الفاس قد وقعت في الراس.. في حين أنّ المطلوب في هذا الزمان معايير قبليّة، أي معايير تتيح لي التعرّف على الشخص الساقط قبل أن يجاورني وأجاوره، وقبل أن أصاحبه في سفر، وقبل أن أتورّط معه في تجارة، وقبل أن أأتمّ خلفه في صلاة.
ومن هنا تأتي بركة أخرى من البركات الكثيرة التي قيّضها الله لنا على أيدي أهل غزّة وفلسطين بفضل "طوفان الأقصى"؛ فالطوفان قد منحنا مقياساً دقيقاً للتعرّف على الأشخاص الساقطين.
الحديث هنا ليس عن موقف الشخص الكلّي من "طوفان الأقصى" والمقاومة ومجمل فكرة الممانعة، فهذا المقياس يختصّ بفرز الخونة والعملاء والأنذال والخسيسين.
مقياس السقاطة أكثر دقّةً وتحديداً من ذلك، وهو يختصّ هنا بجزئيّةٍ حصريّةٍ واضحة المعالم والأبعاد هي "المقاطعة".
كلّ شخص لا يقاطع هو شخص ساقط بالضرورة، هكذا ببساطة، وتحت هذا التصنيف الواضح والمباشر ينقسم الساقطون إلى مراتب:
فهناك الساقط العادي، أي الشخص الذي لا يريد أن يقاطع وحسب.
وهناك الساقط "السوبر"، وهو الشخص الذي يتذرّع بعدم جدوى المقاطعة.
وهناك الساقط "الديلوكس"، وهو الشخص الذي يتذرّع بانعدام البديل الوطنيّ أو تدنّي جودته لتبرير عدم استعداده للمقاطعة أو الالتزام بها، متغافلاً عن حقيقة أنّ العبرة في المقاطعة ليست في ما تقاطع ولكن لأي سبب تقاطع.
وهناك الساقط "السوبر ديلوكس"، وهو الشخص الذي يصبح على حين غرّة خبيراً محنّكاً في الاقتصاد، يتباكى على اقتصاد وطنيّ هو أساساً منهوب، وعلى مصالح وكلاء الشركات والماركات العالمية من أبناء البلد وهم أساساً محض "كمبردور"، وعلى فرص العمل والتشغيل التي ستضيع على شباب وصبايا يافعين هم أساساً موضع استغلال وابتزاز واستلاب من قبل أرباب المال والأعمال!
وهناك الساقط من طراز "فانتوم"، وهو الشخص المستعدّ لتحريم المقاطعة باعتبار أنّ فيها عصيان لوليّ أمرٍ هو أساساً قد فرّط بعهده وخان أمانة ما وُلّيه!
مشكلة الساقطين السوبر والديلوكس والسوبر ديلوكس والفانتوم ليس فقط عدم استعدادهم للتخلّي عن أبسط شهواتهم وملذّاتهم وعاداتهم الاستهلاكية في سبيل مبدأ أو قضية كبرى، ونحن للمهزلة نتحدث هنا عن علبة مياه غازية وكيس شيبس وحبّة شوكولا وفنجان قهوة وساندويشة همبرغر وشامبو للشعر ومستحضر للوجه ومسحوق للغسيل.. الخ، بل مشكلتهم الأعمق والأخطر أنّهم على استعداد لأن يتذرّعوا بأيّ شيء، وأن يعهّروا بأيّ شيء، وأن يلووا عنق المنطق والعلم والدين كي يبرروا لأنفسهم تعلّقهم الحيواني بشهواتهم ورغباتهم، ولكي يقطعوا لأنفسهم فتوى تعفيهم من أي تبعة أو مسؤولية أخلاقية!
تخيّل أن يكون هذا الشخص مثلاً زوجاً لابنتك وأباً لأحفادك (أو زوجةً لابنك وأمّاً لأحفادك).. تخيّل نوع التربية التي سيتربّى عليها الأبناء.. تخيّل نوع التصرفات التي هو على استعداد للقيام بها والمبررات والفتاوى التي يمكن أن يسوقها لنفسه في حال ساءت العلاقات ودبّت الخلافات وتعارضت الإرادات وتنافرت الرغبات.. وعلى ذلك قِس!
من الآن فصاعداً، قبل أن تجاور أحدهم ويجاورك، أو تصاحبه في سفر ويصاحبك، أو تشاركه في تجارة ويشاركك، أو تأتمّ به ويأتمّ بك، أو تناسبه ويناسبك، أو تصاهره ويصاهرك، أو تتخذه صديقاً وخليلاً، أو تُبقي عليه صديقاً وخليلاً، أو تأمنه على سرّك ونفسك، أو توليه ثقتك وتصريف شأنك وأمرك.. الخ، كلّ ما عليك هو أن تسأل: هل هو مقاطع؟ وما هو موقفه من المقاطعة؟ كي تستطيع الجزم سلفاً هل هو "ساقط" أم لا!
ما يسري على الأفراد هنا يسري أيضاً على المؤسسات والشركات والهيئات والمدارس والجامعات ومنظمات المجتمع المدني والصحف ووسائل الإعلام والأنظمة والدول والمجتمع الدولي.. وعلى ذلك قِس!
هناك مصطلح شعبي آخر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسقاطة هو "الواطي"!
كلّ ساقط واطي، وكلّ واطي ساقط، وكلاهما وجهان لعملة واحدة من الوضاعة.
وصف "الساقط" يشير إلى جانب الإحجام في الأفعال الوضيعة، كالإحجام عن المقاطعة، والإحجام عن الإتيان بأفعال النخوة والشرف والمروءة والالتزام بقيمهما. ووصف "الواطي"يشير إلى جانب الإقدام في الأفعال الوضيعة، أي الإقدام على الإتيان بأي فعل خسيس والمبادرة إليه.
خطورة "الواطي" أنّه يبقى خانساً خانعاً ذليلاً طوال الوقت، ولكن في اللحظة التي يشعر بها أنّه تمكّن أو استحكم أو حظي بضوء أخضر من قبل سلطة ما.. فإنّه يَفْجُر حدّ العُهر!
هناك استخدام علميّ تقنيّ آخر لكلمة "ساقط" يقترن بالإستراتيجيا ويُستخدم في المجال العسكري، فيقال مثلاً هذا الموقع ساقط إستراتيجيّاً"، وهذه المنطقة "ساقطة إستراتيجيّاً".. فما بالنا عندما تكون الإستراتيجية نفسها ساقطة، أي أنّها تقوم أساساً على السقاطة؟!
الغريب في الأنظمة والدول التي تبني إستراتيجيتها على السقاطة، وغرس "قيم" السقاطة و"الوطاوة" في النشء، وتشجيع وتعزيز سلوكياتهما، وتقريب وتمكين كلّ ساقط وواطي، وتقليده زمام المناصب والسلطة حتى يكون أداة طيّعةً ومتفانيةً في أداء المهام الوظيفية الساقطة والواطية المطلوبة.. مشكلة هذه الأنظمة والدول أنّها تحكم على نفسها إن عاجلاً أو آجلاً بالسقوط!
فلنفرض أنّ هذا النظام أو تلك الدولة قد تعرّضا لعدوان خارجي أو مؤامرة خارجية، مَن الذي سيدافع عنهما؟ هل سمعتم يوماً بساقط يدافع عن ساقط؟ وعن واطي يدافع عن واطي؟ قد يتآمران على بعضهما البعض، لكنّهما قطعاً لن يفزعا لبعضهما البعض!
المدهش أنّ كلّ ما تقدّم يلغيه أن يتحامل المرء على نفسه قليلاً، ويقاطع أو يتخلّى نهائيّاً عن علبة مشروب غازي وساندويشة همبرغر إلى آخر قائمة الكماليّات التي لن يعطش ولن يجوع ولن يموت بدونها.. هل هذه مسألة صعبة؟ هل هذه مهمة مستحيلة؟
أو يمكن طرح السؤال بطريقة ثانية: هل تستطيع أن تقول لنا مقدار السقاطة والوطاوة التي تتمتع بهما بحيث أنّك عاجز عن هزيمة علبة مياه غازية؟!
وهذا الذي تهزمه علبة مياه غازية، كيف سيدافع عن الوطن حتى وإن هلّل وزمّر وطبّل وزاود وتعنصر باسم هذا الوطن ليل نهار؟!
"السَقَط" و"الواطين".. هذه هي آفة الأوطان الرئيسية، وهذا هو سلاح العدو الأثير!