يا [دور] بناها العزّ.. لا هانت ولا هنّا!
كمال ميرزا
جو 24 :
** نص المداخلة الترحيبية في بداية الأمسية الشعرية التي استضافها النادي الأهلي الأردني يوم الثلاثاء 4 حزيران/ يوليو بعنوان "غزّة.. ونحن"، برعاية وزيرة الثقافة الأردنية "هيفاء النجّار"، ومشاركة الشعراء "تيسير الشماسين" و"علي الفاعوري" و"فيلومين نصّار".
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى أنبياء الله أجمعين... وبعد،،
يقتضي العُرفُ أن تبدأ مثل هذه الفعاليات بتوجيه التحية للضيوف الكرام، وللشعراء الأكارم، ولمعالي راعية الأمسية، وزيرة الثقافة، والتربوية العتيدة، الأستاذة "هيفاء النجّار".. ولكن في هذه الأمسية تحديداً نحن أمام معضلة حقيقة، فنحن الآن في "الأهلي"، هذا النادي الذي يختزل باسمه وسنوات عطائه الثمانين سيرة وطن، والفكرة التي قام عليها هذا الوطن: الأهل، الأسرةُ، العائلة الواحدة، العشيرة الواحدة، الشعب الواحد.. بامتداده الذي يتجاوزُ حدود الخارطة السياسية، وحدود جغرافيا الوطن العربي، ليبلغ سائر أصقاع الدنيا وأربع جهات الأرض.
وبالتالي كيف سأرحب بأهلي في الأهلي وكلُّ مَن في الأهلي اليوم هم أهلي وأهل الأهلي؟!
بكلمات أخرى، اسمحوا لنا نحن اللجنة الثقافية، ومجلس إدارة النادي، والهيئة العامّة، أن نرحب بأنفسنا اليوم في معيّتكم، باعتباركم أنتم "المعزبين" ونحن الضيوف!
لقد اجتمعنا في حضرة غزّة، وفي حضرة الشعر، لذا لا يستقيم مثل هذا المقام دون استذكار واستحضار شعراء أحبّوا الوطن وأحبّهم الوطن، وأوّلهم شاعرنا "زياد العناني" الذي وافته منيّته بالأمس القريب، سائلين المولّى تعالى أن يتغمّده بواسع رحمته.
ونستحضر أيضاً روح آخر الشعراء الأردنيين الكبار - إذا سمح لي الحضور بإطلاق مثل هذا الوصف - نستحضرُ روح شاعرنا الحبيب "حبيب الزيودي" رحمه الله.
صحيح أنّ الصباحات في الشرق لا تبتدئ ولا يستقيم مزاجها إلا بالسيدة "فيروز" متّعها الله بالصحة، هذه التي أمضتْ سيرتها ومسيرتها هي والرحابنة يتغنّون بالأوطان، ولكن، مَن منّا هنا في الأردن لا يتمايل وَجْدَاً، ولا يصفو بالُهُ عندما يبدأُ نهاره على وقع كلمات "حبيب"، وصوت "أنغام" الملائكيّ:
"صباح الخير يا عمّان.. يا حنّة على حنّة"!
ومَن يمكن أن يطرب لقصيدة تتغنى بعمّان مثل الشراكسة، هؤلاء الذين أسّسوا نواتها منذ مائة وخمسين سنةً وتزيد، هناك جوار المدرّج والقلعة، وجوار السيل والعين، ورعوا بذرتها ونبتتها، واستقبلوا سُراة الثورة العربية الكبرى حين أهلّوا عليها، حتى نمتْ وازدهرتْ وأصبحتْ هذه العاصمة العصريّة الحبيبة التي نتغنّى بها جميعاً، والتي إن عتِبْنَا عليها بين الحين والآخر وعتبت علينا فهو عتب المُحبّين، ولسان حالنا ثابت لا يتغيّر:
"يا دارٍ بناها العزّ.. لا هانت ولا هنّا"..
وكأنّ روح "حبيب" هنا لا تناجي عمّان والأردن والأردنيين فقط، بل تناجي أيضاً غزّة وفلسطين والوطن بالمطلق.. وتناجي في وجدان كلّ شركسيّ "اوشحا ماخوه" والقفقاس!
ومن قبيل الشيء بالشيء يُذكر، تعلمون جميعاً أنّ "حبيب الزيودي" قد كان أوّل مدير لبيت الشعر الأردنيّ، هذه الدارة الرؤومة التي تقع على سفح "جبل الجوفة" حيث سكن الشراكسة أيضاً. ولَكَم نتمنّى أن تعود الحياة لتدبّ في أوصال هذه الدارة كما في السابق. ولتأسيس بيت الشعر قصة جديرة بالاطّلاع، كتبها جنديّ بيت الشعر المجهول، كبير الصحافيين الثقافيين في الأردن الأستاذ "مجدي التل"، ونشرها في "مجلة أفكار" أيام عزّ المجلة.
ونستحضر باسمكم أيضاً شاعرنا الأردنيّ "فيصل قات"، ابن ناعور الحبيبة التي اقترن اسمُها باسم أديبنا الكبير الآخر "عيسى الدبابنة الناعوري"، فنسيتْ للحظات ابنها وعاشقها الشركسيّ البار "فيصل"، هذا الفارس القوقازيّ القادم "من خلف الضباب"، والوصف هنا مقتبس من أعمال "زهرة عمر"، زهرة الرواية الشركسية والأردنية ومجمل أدب الشتات. وإذ رحل العزيز "فيصل قات" كعادة الفرسان و"خمسة أسياف تسكن جسده"، فإنّ عزاءنا أنّ زوجته الفاضلة السيدة "شهيرة هاكوز"، وبناته "سواند" و"لاريسّا" و"إلزا" سليلات المحاربات الشركسيات حاضرات معنا اليوم.
وقد كنّا قد بيّتنا النيّة في حال تعذّر حضورهنّ بفعل السفر أن يستلم الدرع التكريمية بالأصالة عنهنّ أديب ألمعيّ آخر من أدبائنا الأردنيين الشراكسة، الروائيّ والكاتب الأستاذ "محمد أزوقة"، صاحب "القضيّة الشركسيّة" وغيرها من المؤلّفات، وعضو رابطة الكتّاب الأردنيين الحبيبة وتيّارها القوميّ، والذي للأمانة لم ألتق أحداً في الوسط الثقافيّ والأدبيّ في الأردن لا يكنّ له الحبّ والتقدير، مع أنّكم جميعاً تعلمون أنّ هذه تكاد تكون مستحيلةً رابعةً من المستحيلات في ضوء المشهد الثقافيّ والأدبيّ.
ونستحضر أيضاً روح الشاعر الشركسيّ الجرشيّ، أو الجرشاويّ، "حسني مرتضى تحغزيت" أو "تحقزيت"، والذي كان أحد أبرز أبناء جيله، جيل نهاية الأربعينيّات والخمسينيّات وبداية الستينيّات، فكراً وثقافةً وحضوراً، ولكن ما بين النضال والاعتقال والمنفى فقد تبعثر شِعرُهُ وتناثرَ إرثُهُ، ونتمنّى على باحث متخصّص ما أو جهة اعتباريّة ما أن تضع على عاتقها مهمة تجميع وتحقيق ونشر إرث "حسني مرتضى" رحمه الله، أسوةً بغيره من أدبائنا ومفكّرينا ومناضلينا الأردنيين، وفي مقدّمتهم طبعاً حبيب الكلّ، و"مْزَعِّلْ" الكلّ، صاحب المواقف الرجوليّة، والقلب الطفوليّ، ابن ماعينَ البار "غالب هلسة". وعنه إن شئتم أن تستزيدوا فاسألوا الحبيب "غطّاس صويص – نزيه أبو نضال"، وكتابه عن "غالب" بعنوان "اكتمال الدائرة" الصادر بدعم من وزارة الثقافة.
وأخيراً لا يستقيم مقام الوفاء والوطنيّة دون استحضار شاعر الأردن الأوّل، وفي بعض المناحي شاعر الأردن الأوحد، مصطفى وهبي التل، "أبو وصفي"، و"صفينا" جميعاً شرقَ النهر وغربَه، عرار، عرارنا جميعاً من المحيط إلى الخليج، والذي لم نوفيه حقّه حيّاً وميّتاً، لا لتقصيرٍ منّا بالضرورة، ولكن لأنّ حياته وتجربته وشعره ونضاله وفكره وأثره ومآثره أكبر من أن تُختزل في عُجالةٍ صحافية أو ثقافية أو أكاديمية.
وهنا لا بدّ أن نستحضر الصداقة التي جمعتْ بين "عرار" وذلك الشركسيّ الأصيل "شمس الدين سامي جراندوقة"، حيث يمكن أن نعتبر "عرار" في مجال الشعر والأدب والوظيفة العامّة هو المكافئ الموضوعيّ لـ "شمس الدين سامي" ونضاله في مجال العمَلَين السياسيّ والحقوقيّ.
كما نستغل الفرصة لنتوجّه باسمكم بتحية حبّ وتقدير إلى عطوفة الدكتور "أحمد شركس"، العمّانيّ ابن يافا، واليافاويّ ابن عمّان، الأب الروحيّ للمكتبات والأرشفة والتوثيق في الأردن، وأحد أعلامها في الوطن العربيّ والعالم. وهو أيضاً أحد أعمدة مهرجان جرش الأوائل. مُتمنّينَ للدكتور "أحمد شركس"، ومُتمنّينَ عليه، أن نرى بين أيدينا قريباً كتابه الذي طال انتظاره حول "عرار"، أو بالأحرى، حول ما لا نعرفه بعد عن "عرار".
"ليتَ الوقوفَ بوادي السير إجباري.. وليتَ جارَكَ يا وادي الشتا جاري"..
كم ردّدنا هذا البيت بلا كلل، وكم رُدّد هذا البيت بلا كلل، حبّاً بشعر عرار، وحبّاً بعرار، فكيف لا نردّدُهُ الآن ونحن في هذه اللحظة في الأهلي، في مقرّ النادي الجديد بعد السيل والعين، في أكناف وادي السير، وفي جيرة وادي الشتا.
الحمد لله الذي جعل العربيّة لساناً ينتمي إليها وإلى عِترَتِها كلّ مَن تحدّث بها وأتقنها، وباسم هؤلاء الشعراء والأدباء الغائبين الحاضرين نتوجّه بتحية حبّ وصمود وإباء وفداء ووحدة حال ومصير إلى أشقائنا الصابرين المرابطين المجاهدين في غزّة وعموم فلسطين، "روح الروح"!
واسمحوا لنا أن نبتدئ هذه الأمسية بمقاطع مختارة لشاعرنا الحبيب "فيصل قات" رحمه الله من قصيدته "النار التي لا تخبو أبداً":
"حين يموت الحلم
وترحل كلّ الأشياء
وتجيء الريح لتنفض
أوراق التاريخ الصفراء
ماذا يتبقّى من عينيكِ
سوى ذكرى
كانت مثل القنديل
تنير لي الظلماء
...
في قلبي
خبأتكِ تفاحاً بريّاً
خبأتكِ قمراً
يسلب عقلي
يجعلني أركض عبر شوارع
هذي المدن المنسيّة
يجعلني أرفع صوتي
أجعله مئذنةً
وأنادي:
أين تكونين الآن..
يا تفاحة قلبي مايكوب/ يا تفاحة قلبي عمّان/ يا تفاحة قلبي القدس/ يا تفاحة قلبي غزّة؟!
...
ترحل كلّ الأطيار، وترحل كلّ الأحلام، وتبقى مايكوب/ عمّان/ القدس/ غزّة لنا، نافذة نتطلّع منها، نبصر أفق مناديل الزمن القادم خلف رماد الليل، ونبصر شمساً تدنو منّا، تغزل أحزان نوافذنا سِفراً تسكن فيه الكلمات الفضية والعشب المتموّج عبر دروب الحب المتسلّق أهداب القفقاس/ مؤاب/ الكرمل.