عن النجاح الغبي لعملية تحرير الأسرى الصهاينة!
كمال ميرزا
جو 24 :
ما بين جبهة داخلية على شفير الانهيار في الداخل الصهيونيّ يحاول كلّ واحد من قادتها ونخبها السياسية والعسكرية النجاة بنفسه وإغراق الآخرين، وما بين محاولات الرئيس الأمريكي الخَرِف "جو بايدن" تلميع صورته الانتخابية المزرية، وتمويه حقيقة أنّ الهيمنة والنفوذ الأمريكيين في تراجع وأفول وقد ازدادا تراجعاً وأفولاً في عهد إداراته القميئة، فإنّ محاولة وسائل الإعلام الصهيونية والأمريكية ومن لفّ لفيفها إضفاء هالة نصر هوليووديّة على عملية تحرير الأسرى الصهاينة في النصيرات بغزة اليوم.. هي محاولة سمجة وبائسة وممجوجة للتغطية على حقيقة أنّ تنفيذ هذه العملية بهذا التوقيت وبهذه الطريقة هو قمة "الغباء" من الناحيتين التكتيكة والإستراتيجية على حدّ سواء!
لن نقول إنّ تنفيذ هذه العملية بعد ثمانية أشهر كاملة هو في حدّ ذاته فشل، فهذه محاجّة قد استخدمها الكثيرون، وهي واضحة وضوح الشمس للقاصي والداني والصغير والكبير ولا تحتاج إلى إعادة تكرار وترديد.. وعليه، فإنّ موضع "الغباء" في "عملية النصيرات" ليس مردّه طول المدّة الزمنية وتأخّر هذا النجاح الفاشل والانتصار الموهوم، بل إنّ غباء هذه العملية يكمن في عدّة عوامل إجرائية أخرى أكثر آنيّةً وإلحاحاً وتأثيراً هي:
أولاً، توقيت تنفيذ العملية جاء قبل ساعات من الموعد المتوقّع لقيام "المقاومة الفلسطينية" بتسليم ردّها رسميّاً إزاء ما يُسمّى "إعلان بايدن" من أجل وقف إطلاق النار والتوصّل لتسوية. وغالباً فإنّ العنجهية الأمريكيّة والصهيونيّة قد صوّرت لهؤلاء الأغبياء أنّ تنفيذ العملية في هذا التوقيت بالذات سيخيف المقاومة، وسيهزّ قناتها، وسيجعلها ترضخ وتوافق على "إعلان بايدن" دون شروط!
ولكن متى أظهرت المقاومة الفلسطينية أنّها ترضخ للمفاوضات تحت النار؟ بالعكس، إذا كان هناك أمل ولو ضئيل بأنّ توافق المقاومة على "إعلان بايدن" بصيغته الحاليّة، فإنّها لن توافق الآن حتى ولو كان الإعلان مقبولاً لها، لأنّ هذا سيظهرها بمظهر من رضخ وأذعن واستسلم للابتزاز.
ثانياً، أمريكا بغبائها قد أفصحتْ مبكراً عن غاياتها من مينائها "الإنساني" المزعوم، وطبيعة الغايات التي سيُستخدم هذا الميناء العائم من أجلها تحت غطاء "الإغاثة الإنسانية" المزيفة؛ لذا فإنّ أحداً لا يستطيع لوم المقاومة الآن، أو اتهامها، أو المزاودة عليها، في حال وضعت هذا الميناء الشيطانيّ ضمن بنك أهدافها المُعلنة.
ثالثاً، الغباء الأمريكي لم يتوقف عند الميناء العائم، بل تعدّاه إلى الإفصاح جهاراً نهاراً عن وجود قوّاتها المُحارِبة على الأرض في غزّة، وذلك من خلال تبجّحها بأنّ ما تسمّى "خلية المختطفين" الأمريكية قد ساعدت في استعادة الأسرى الصهاينة، وهذا سيفتح الباب على أمريكا ليس فقط لاستهداف أيّ تواجد عسكريّ أو مدنيّ لها على التراب الغزّاوي والفلسطيني، بل وأيضاً سيجعل وبضمير مرتاح كلّ ما هو أمريكي هدفاً مشروعاً ومُشرعاً أمام المقاومة وحلفائها والأفراد المتعاطفين معها حول العالم.. وما استهداف السفارة الأمريكية في بيروت ببعيد!
رابعاً، الغباء الأمريكي أعلاه سيعزّز موقف المقاومة في حال رفضت الولايات المتحدة كضامن لأي اتفاق يمكن أن يُوقّع لوقف إطلاق النار أو الهدنة، والمطالبة بضمانات أكبر وضامنين آخرين من الدول الكبرى والوازنة مثل روسيا والصين.
خامساً، الغباء الأمريكي قد يدفع المقاومة إلى اجتراح فئة جديدة تضاف إلى فئات الأسرى التي يتم التفاوض بموجبها، وهي فئة الأسرى الصهاينة مزدوجي الجنسية ممن يحملون الجنسية الأمريكية، بحيث يتم التفاوض على هؤلاء بشكل منفصل، وبموجب تنازلات على أمريكا نفسها وبشكل مباشر أن تقدمها للمقاومة الفلسطينية وليس الكيان الصهيوني. ونفس الشيء ينطبق على بقية الأسرى من حملة الجنسيات الغربية الأخرى.
سادساّ، العملية الغبية نبّهت المقاومة الفلسطينية إلى وجود خرق معيّن أو خلل معيّن أدى إلى تسلل المعلومات الاستخباراتيّة التي مكّنت العدو الصهيو ـ أمريكي من تنفيذ عمليته بهذه الطريقة، وبالتالي المُسارعة إلى التعامل مع مصدر الخرق أو موطن الخلل وتداركه. وقد أثبتت المقاومة منذ اليوم الأول لـ "طوفان الأقصى" أنّها أسرع من يتعلّم ويستجيب ويتفاعل مع المعطيات والمتغيّرات العمليّة على أرض الواقع.
سابعاً، الطريقة التي تمّ تنفيذ العملية بها أعادت التأكيد على السقوط الأخلاقي لأمريكا والكيان الصهيوني، حيث أقدما على اقتراف مجزرة راح ضحيتها حوالي (150) شهيداً وما لا يقل عن ذلك من الجرحى، فقط من أجل تحرير أربعة أسرى هم أساساً أسرى "فوق البيعة"، أي أنّهم أسرى من الجمهور الذي كان يرقص ويهزّ ويترنح في حفل (نوفا) بصحراء النقب يوم 7 أكتوبر، وليسوا من بين العسكريين الذين كانوا أساساً ضمن خطة استهداف المقاومة عندما قامت بإطلاق معركة "طوفان الأقصى".
والسؤال الذي لا يستطيع المرء أن يمنع نفسه من طرحه هنا: لماذا سمحت المقاومة للأمريكان والصهاينة باسترجاع الأسرى أحياء؟ لماذا لم تقتلهم ليسترجعوهم جثثاً على الأقل؟ لماذا لم يقتلوهم ويفخّخوا جثثهم؟ لماذا لا يفخخونهم أحياء حتى دون قتلهم؟
والإجابة على مثل هذه الأسئلة وغيرها فيه تأكيد على السقوط الأخلاقي الأمريكي الصهيوني في مقابل النموذج الأخلاقي والإنساني الذي تجسّده المقاومة الفلسطينية وتقدّمه للعالم أجمع؛ فبحسب العقيدة الإيمانية التي تقوم عليها المقاومة وتنهل منها، متى ما وقع الأسير في قبضة آسره فقد أصبح معصوم الدم، وأصبح الآسر مسؤولاً عن أسيره، وأصبح من صلب الالتزام الإيماني لهذا الآسر أن يُكرم الأسير ويطعمه ويسقيه ويعالجه ويحمي حياته!
ولو أنّ المقاومة قد أقدمت على قتل هؤلاء الأسرى قبل السماح باسترجاعهم لما لامها أحد وفق المنطق السائد والمعايير العسكرية السائدة، ولكن هي كانت ستلوم نفسها، ومن هنا تأتي المفارقة العجيبة: الكيان الصهيوني يحاول بيأس منذ ثمانية أشهر القضاء على أسراه لدى المقاومة عبر القصف العشوائيّ والجنونيّ، باعتبار أنّ هؤلاء الأسرى لا يعنون له أكثر من ورقة تفاوضية بيد المقاومة يريد أن يجرّدها منها، في حين أنّ المقاومة هي التي تحاول الحفاظ على حياة هؤلاء الأسرى وإكرامهم انطلاقاً من التزامهم الشرعي والأخلاقي، ورغم العبء الكبير الذي يمثله ذلك في العديد من الأحيان، خاصة الأسرى من غير العسكريين أو الكهول والمرضى!
في ضوء ما تقدّم فإنّ "عملية النصيرات" على المدى المنظور والبعيد هي وبال على العدو الصهيو – أمريكي أكثر منها "نفيلةً" تسجّل باسمه، ولكن إذا كان هناك شيء يبعث على الحزن والأسى في "عملية النصيرات" فهو:
أولاً، الشهداء الذين قضوا نحبهم والجرحى الذين أصيبوا في المجزرة التي اقترفها العدو الصهيو – أمريكي من أجل تنفيذ عمليته، وإن كان مثل هذا الإجرام ليس مستغرباً على مثل هذا العدو وانحطاطه.
وثانياً، في حال أنّ العملية قد تمّ تنفيذها بناء على معلومات استخباراتية أدلى بها عملاء أو مخبرين أو جواسيس، فيحزّ بالنفس أنّ أمثال هؤلاء الخونة قد يكونون غزّاويين من أبناء جلدة المقاومة قد جنّدهم الكيان الصهيوني النذل بهذه الطريقة أو تلك، أو فلسطينيين من المنخرطين في جريمة "التنسيق الأمني" الوضيعة، أو عرباً عاملين لدى أيّ من أجهزة الاستخبارات الإقليمية التي تسبح في فلك الموساد والـ (CIA)، وتشاطر العدو الصهيو ـ أمريكي كره المقاومة حدّ الحقد، ومناصبتها العداء، والرغبة بالقضاء عليها وإلغائها من قاموس الشعوب!
المقاومة عوّدتنا على رجاحة العقل، واتزان التفكير، وعدم الركون للعاطفة وردود الأفعال غير المحسوبة، وهو ما مكّنها هي وحاضنتها الشعبية من اجتراح كلّ هذه المعجزات التي اجترحوها لغاية الآن.. ومع هذا، فمن المتوقع أن يأتي ردّ المقاومة على شكل عملية نوعية غير مسبوقة، تزيد دوار العدو دواراً، وحيرته حيرةً، وتهوي بكبريائه وغطرسته إلى حضيض أحطّ من الحضيض الذي وصل إليه!