عن التخلّف والتقدّم و"الأمّة الوسطا"!
كمال ميرزا
جو 24 :
لو أخذنا الرياضة مدخلاً، فهي تعتبر حالياً من أهم مظاهر تقدّم ورقيّ الشعوب، ومتابعة مبارياتها ومنافساتها هي من مظاهر السلوك المتمدّن والمتحضّر.
هل سبق لكَ وأن رأيتَ مُشجّعاً مُخلصاً متفانياً يدهن وجهه وجسده بالأصباغ، ويرتدي ملابس مزركشة مليئة بالإكسسوارات، ويسرّح شعره تسريحة غريبة، يتخذ موقعه وسط الجمهور، ويأتي بحركات مُفرطة، ويزعق بهتافات صاخبة، أو يبتهل ويتمتم مُغمِضاً عينيه وضامّاً يديه قبل أن يقوم لاعب من الفريق الذي يشجّعه بتسديد ركلة حرّة أو ضربة جزاء؟
وهل سبق لك أن شاهدت قائداً للمشجعين يقف أمام جمهور فريقه يحمّسهم بترديد أناشيد و"ترانيم" خاصة، بينما يرتدي زيّا يمثّل الحيوان الذي يتخذه الفريق شعاراً أو تعويذةً (mascot)، ويجسّد معاني انتمائهم جميعاً لفريقهم، والتفافهم حوله ضد "الخصوم" الذين يدينون بالولاء والانتماء إلى (mascot) آخر؟!
بعيداً عن المظهر الخارجيّ والتفاصيل الخارجيّة، بماذا يختلف المشجّع الأول عن أيّ "ساحر" في أيّ قبيلة من القبائل "القديمة" التي نصفها بـ "البدائية" أو "المتخلّفة"؟
من حيث "الجوهر" و"النموذج الكامن" لا فرق!
الفرق الوحيد أنّ الساحر يرتدي ما يرتديه، ويقوم بحركاته وطقوسه ويبتهل كي ينزل المطر، و"ساحرنا" العصريّ المتمدّن يبتهل لكي يسجّل فريقه هدفاً!
نفس الشيء ينطبق على المثال الثاني، بماذا يختلف الـ (mascot) الذي تتخذه الفرق ومشجّعيها شعاراً أو تعويذةً عن أيّ (طوطم) تنتمي إليه و"تقدّسه" أيّ قبيلة قديمة، ويمثّل لها عنواناً لهويّتها وولائها وانتمائها ووحدتها وتضامنها؟!
من حيث "النموذج الكامن" لا يوجد هناك فرق بين هذه المجتمعات مفرطة "التخلّف" والمجتمعات مفرطة "التمدّن"، وكلمة السر هنا أو القاسم المشترك بينها هي "الوثنيّة" أو "النزعة الوثنيّة" أو "الغنوصيّة"!
ولا يقتصر الأمر على الرياضة، بل يتعداها ليشمل مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية؛ فعلى سبيل المثال تاريخيّاً وأنثروبولوجيّاً وحدها الشعوب مفرطة "التخلّف" و"البدائيّة"، والشعوب مفرطة "التقدّم" و"التحضّر"، هي التي ترقص وتزمّر وتطبّل وتغنّي في الجنازات والمآتم والحِداد، أيّ في الأوقات التي يُفترض أن تحزن فيها وتصمت وتعتبر وتتعاطف.. وذلك بكون الرقص والزمر والطبل والغناء هي في صلب الممارسات الوثنيّة!
المسألة هنا تتعدّى الفن بما هو فن، وقِيَمه الجماليّة، ووقعه النفسيّ الذي يبعث على السكينة والخشوع والتأمّل.. ليصبح ضرباً من الطقس أو الشعيرة الوثنيّة المعزّزة بلذّة جسدية حسّية "آيروسية" إدمانيّة يمنحها دفق "الأدريناليين" الناجم عن الحركات السريعة و/أو العنيفة!
وما بين "التخلّف" المُفرط و"التقدّم" المُفرط للمجتمعات أعلاه يبرز نموذج ثالث يمكن أن نسمية نموذج "الأمّة الوسطا"، والذي كانت الحضارة العربية الإسلامية حتى وقت قريب المثال التاريخيّ الأبرز عليه!
ولكن يبدو أنّ أحداً لم يعد يرق له هذه الأيام أن يكون "أمّةً وسطا"، ولا حتى أبناء السلالات العريقة والبيوتات الأصيلة؛ فالأمّة الوسطا مملّة ورتيبة، ولا تنضوي على طرافة أو ألق أو ريادة أو عصرنة أو عقلية الفعاليّة (event) أو روح الاستعراض (show)!
وهي، أي "الأمّة الوسطا"، بمقاييس هذا الزمان، تعبد ربّاً "مملّاً" و"رتيباً" مثلها، متوارياً، طويل بال "زيادة عن اللزوم"، يترك السُنن التي أودعها في الكون لتعمل وحدها حتى أقصى مدى ممكن دون أن يتدخّل.. وليس كآلهة الأساطير الوثنيّة وأبطالها الخارقين، والتي تؤمن بالإثارة والآكشن والعنف، ونستطيع أن نرسمها ونصوغها كما يحلو لنا، أو أن ننحت لها أصناماً وتجسّدات نلمسها بأيدينا، وتُشعرنا بنشوة "الفردانية" الزائفة، ونشوة "التشيّؤ"، وتحقننا بجرعة غامرة من وهم النديّة والقدرة والربوبيّة التي تربو على ربوبيّة الربّ نفسه الذي ينصاع لما نشاؤه نحن لا ما يشاؤه هو لنا (كما في التعاليم الصهيونيّة التلموديّة المحرّفة)!
من مواصفات الأمّة الوسطا أنّ أبناءها لا يعبدون الطاغوت..
وأنّ أبناءها أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم..
وأنّ أبناءها كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه..
وأنّ أبناءها يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله..
وأنّ أبناءها لا يطيعون مخلوقاً في معصية الخالق..
وأنّ أبناءها كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى..
وغيرها الكثير من الخصال..
ولكن كما قلنا، كلّها خصال مملّة ورتيبة ولا تليق بوثنيّة القرون البائدة، أو وثنيّة القرن الحادي والعشرين الرقميّة "الذكيّة"!
هناك قاسمان مشتركان آخران بين الشعوب مفرطة "التخلّف" والشعوب مفرطة "التقدّم":
الأول أنّهم ينفقون أموالهم رئاء الناس، ويدلون بأموالهم إلى الحكّام.
والثاني أنّ حكّامهم يستخفّون بهم فيطيعونهم؛ حكّام الشعوب المتخلّفة يستخفّون قومهم بإدعاء أنّهم أبناء السماء المُحتكِرين لمشيئتها والحديث باسمها، وحكّام الشعوب المتقدّمة يستخفّون قومهم بأن يصبحوا بحكم المنصب هم السماء وإرادتهم السامية هي المشيئة، حتى وإن كان ذلك باسم ديمقراطية سمجة، أو شرعيّة مصطنعة، أو عقد اجتماعيّ مشوّه ومفروض!
هناك قاسم مشترك آخر هو الحضور القويّ لـ "القوى السُفليّة" في المخيال الشعبّي وتفاصيل العيش اليوميّة: الشعوب المتخلّفة تسمّيها "أرواحاً شريرةً"، والشعوب المتقدّمة تسمّيها "الأجهزة"!
كما قلنا، "الأمّة الوسطا" مملّة ورتيبة، لذا ما عاد هناك أحد معنيّ بأخذ الموعظة والعبرة من قصص الأمم مفرطة التخلّف أو التمدّن البائدة، كقصة فرعون مثلاً!
بل إنّ "روح العصر" التي قوامها الإثارة والغرائبية والتفكيك والشذوذ تقتضي منّا هذه الأيام أن نستلهم "فرعون" ونحتفي به باعتباره "قصة نجاح" نتعلّم منها، ونتجاوز مواطن ضعفها وقصورها محوّلين "التحدّي" إلى "فرصة"، و"نموذجاً" يُحتذى خليقاً بأن ينال الحفاوة والجوائز و الأوسمة والتكريم على أوسع نطاق، وأن نتعاطف معه ونتقمّصهُ وجدانيّاً باسم مفهوم مشوّه وشاذ للإنسانيّة شأنه شأن أي قاتل مأجور أو زعيم مافيا أو قاطع طريق كاوبوي أو "الجوكر" في فيلم هوليووديّ.. هو شرير قطعاً، ولكنّه "بطل" نحبّه ونتعلّق به!
اللهم اجعلنا "أمّةً وسطا"!
اللهم أجرنا من الشعوب المتحضّرة والقادة الأكثر تحضّراً!
اللهم اجعلنا شعوباً رتيبةً، وارزقنا ولاة أمر ومسؤولين ممّلين عاديّين "لا-هوليووديّين"، ونخباً مملّة عاديّة "لا-هوليووديّة"!