التباكي المزيف والمصطنع لانتوني بلينكن في البحر الميت
باسل العكور
جو 24 :
تمالكت نفسي بالقوة وكادت تفرّ مني بعض العبرات، فلوهلة شعرت أن من يتحدث بلسان وجعنا شخص آخر، ولكن، سرعان ما تبددت هذه الحالة الوجدانية المرهقة والمؤلمة التي تكاد تقتل الواحد منّا في اليوم مئة مرة، لتسود حالة متعاظمة من الذهول والصدمة! تخيلو معي أن من يتحدث عن معاناة أهلنا في غزة، عن الطفل الفلسطيني "فادي" الذي فقد أبويه وأطرافه، بكلّ هذا التفاني، هو وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن، وهو ذاته الغارق حتى قمة رأسه في الدم الفلسطيني المراق، المتورط وحكومة بلاده في المشاركة المباشرة المادية والمعنوية والعسكرية والدبلوماسية فيما يرتكب من إبادة جماعية بحقّ أبناء الشعب الفلسطيني.
وزير الخارجية الأمريكي في المؤتمر الدولي للاستجابة الانسانية الطارئة في غزة، الذي انعقد في منطقة البحر الميت يتباكى على الضحايا المدنيين في غزة، ويدعو اسرائيل لاتخاذ المزيد من الخطوات لتقليل من الضحايا المدنيين، وكأنه يقول لنا: لا مشكلة لدي مع قتل المدنيين من حيث المبدأ، ولكن على اسرائيل أن تقلل العدد!! كيف يجرؤ على قول هذا بحضور هذه النخبة من زعماء العالم وممثلي المنظمات الدولية الانسانية؟! ألم يستحِ على نفسه وحكومة بلاده؟! كيف يقول دبلوماسي رفيع الفكرة ونقيضها في ذات الجملة، كيف يعبّر عن الموقف ونقيضه في كلمة واحدة -مناسبة واحدة-؟ كيف يؤكد دعم بلاده لمبادرة سلام وبنفس الوقت تستمر حكومة بلاده في تقديم الدعم العسكري واللوجستي والاستخباري والمادي والمعنوي لقوة غاصبة محتلة ممسوسة، مسكونة باوهام نصر لن يتحقق أبدا؟!!
بلينكن يعلن في المؤتمر الدولي للاستجابة الانسانية الطارئة في غزة أن بلاده مستعدة لدعم جهود الاغاثة بمبلغ (400) مليون دولار أمريكي، والسؤال هنا في الأساس كيف يكون الطرف المتورط بهذا العدوان بكل تفاصيله وحيثياته، الشريك في كل عملية وجريمة ومجزرة ومحرقة ترتكب، ان يكون جالسا بين أطراف دولية تدعو لوقف الحرب وانهاء العدوان وانسحاب القوات الغازية وتأمين وصول المساعدات الانسانية ؟!! ثمّ كيف نفهم أنك تشارك بكلّ امكاناتك وترسانتك العسكرية في تدمير غزة وإبادة أبنائها ثمّ تقدّم دعما هزيلا لجهود إغاثة أولئك الذين شاركت في قتلهم وتدميرهم؟!
عندما يعلن بلينكن تقديم هذا المبلغ "السخي" لجهود الاغاثة في غزة، دعونا لا ننسى حزمة المساعدات الامريكية التي أقرها مجلس النواب الأمريكي قبل شهر تقريبا لحليفتهم اسرائيل والتي وصلت إلى (26) مليار دولار؟ تسعة مليارات دولار منها لجهود الاغاثة للاسرائيليين الذي نزحوا من منازلهم في الشمال والجنوب!!!
الولايات المتحدة حتى هذه اللحظة، وبعد دخول هذا العدوان الوحشي شهره التاسع، تقف خلف اليمين الصهيوني وصولا لتحقيق أهداف الحرب عبر إبادة الشعب الفلسطيني برمته وهدم غزة وتسوية بيوتها ومرافقها بالأرض، ومع ذلك تتنطح لجهود الوساطة، وتتحدث عن أنها تضمن التزام حكومة الاحتلال النازية ببنود المبادرة الامريكية التي اقترحها الرئيس الامريكي جو بايدن، وهو بالمناسبة ذات الرئيس الذي قال في وقت سابق "إن دخول رفح خط أحمر"، ليتبين لاحقا أن الخطّ الأحمر الوحيد لدى الادارة الأمريكية هو الحيلولة دون تحقيق جيش الاحتلال البربري أهدافه الموضوعة منذ بداية العدوان على قطاع غزة.
بالأمس فقط، شاركت الولايات المتحدة عسكريا واستخباريا وعبر مينائها البحري "الانساني"، في عملية عسكرية لـ"تحرير" أربعة أسرى صهاينة، وهي العملية التي راح ضحيتها (265) مدنيا فلسطينيّا وأصيب بها أكثر من (650) مدنيا آخر.. وهذا يؤكد أنها لن تكون طرفا محايدا في أي عملية تفاوض، ولن تكون ضامنا حاسما لالتزام حكومة الكيان بأي صيغة اتفاق يجري اقرارها. ويبدو أن ما عجزت حكومة الاحتلال وحلفاؤها الغربيون عن تحقيقه من خلال العدوان البربري على القطاع، تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه عبر مفاوضات تحاول أن تشرك بها الامم المتحدة ودول المنطقة لتفرض على المقاومة الفلسطينية الباسلة استسلاما وهزيمة لم تتحقق على الأرض ولن تتحقق أبدا..
ما زال وزير الخارجية الأمريكي يتحدث في كل مناسبة عن اليوم التالي للحرب، والواضح أنه يريد أن يقنع العالم بأن حكومته قادرة على فرض توليفة جديدة، قيادة جديدة تدير قطاع غزة، بغضّ النظر عن نتيجة العدوان، وبصرف النظر عن تضحيات الشعب الفلسطيني وصمود مقاومته وصلابتهم الاسطورية التي ستنجح حتما في تغيير معادلات القوة في العالم وليس في المنطقة فقط .
لوزير الخارجية الامريكي انتوني بلينكن نقول، إن هذه الحرب أثبتت أن الإرادة الحيّة للشعوب وسعيها للحرية والعدالة ونضالها من أجل حقوقها المشروعة اقوى من كل تكنولوجيا الدنيا، وأكثر فاعلية وحسما من اسلحتكم المتأخرة والمتقدمة المحرمة وغير المحرمة التي لم تتوقفوا عن إمدادها للعدو الصهيوني منذ السابع من اكتوبر وحتى يومنا هذا، فما غير "ضب أوراقك" وادعاءاتك وكفكف دموع التماسيح التي أزعجت بها طمأنينتنا بحتمية النصر وغادر دون عودة .. لقد سقطت الأقنعة وظهرت كراهيتكم لنا التي لا نعرف سببها، وما عاد ممكنا أن تلعبوا الدورين معا.. أنتم متورطون بهذه الحرب وأيديكم ملطخة بدماء الأبرياء والتاريخ لن يرحمكم أبدا..