هل الأنظمة العربية متواطئة مع الكيان الصهيوني؟!
كمال ميرزا
جو 24 :
منذ انطلاق "طوفان الأقصى"، وحرب الإبادة والتهجير الصهيو - أمريكية التي أعقبته.. وعموم الشعوب العربية [والإسلامية] مستاءة من موقف أنظمتها تجاه ما يحدث، وغير راضية عن استجابة وردود أفعال هذه الأنظمة إزاء ما يتعرّض له أهالي غزّة وسائر الفلسطينيين من جرائم همجيّة وعنف وتنكيل.
حالة "الاستياء" و"عدم الرضا" هذه تعبّر عن نفسها بطرق مختلفة ومتباينة، فأحياناً يكون التعبير حادّاً حدّ اتهام الأنظمة العربية بـ "الخيانة" و"العمالة". وأحياناً يكون أقل حدّة كاتهام الأنظمة العربية بالتخاذل أو الجُبن. وأحياناً يحاول المنتقدون أن ينحو منحىً أكثر "عقلانيّةً" و"موضوعيّةً" مثل اتهام الأنظمة العربية بالتفكير بشكل قُطري، أو تغليب مصالحها الذاتية والشخصية الآنية الضيقة على مصلحة شعوبها، أو على المصلحة القومية العربية [والإسلامية] بعيدة المدى.
للإنصاف، فإنّ غالبية الانتقادات والاتهامات الموجّهة للأنظمة للعربية والقادة العرب يغلب عليها الطابع الانفعالي والذاتي والعمومي، والأنظمة العربية تمتلك إذا أرادت القدرة على الإجابة والردّ على جميع هذه الانتقادات والاتهامات.
قد تعجبكَ أو لا تعجبكَ هذه الإجابات والردود، وقد تراها مقنعة أو غير مقنعة، هذه مسألة مختلفة.. المهم أنّه ما من انتقاد أو تهمة إلا ولدى الأنظمة العربية ردٌّ عليها.
فعلى سبيل المثال، بالنسبة لأولئك الذين يتتقدون الأنظمة العربية على عدم قيامها بإعلان الحرب على الكيان الصهيوني نُصرة لغزّة وفلسطين.. فإنّ الردّ ببساطة هو أنّ هذه الخطوة ستجعل أمريكا والدول الغربية الداعمة للكيان الصهيوني تعلن الحرب هي الأخرى من طرفها، وهذا سيؤدي إلى اشتعال حرب إقليمية وربما عالمية واسعة النطاق لا يستطيع أحد التنبّؤ بمآلاتها، والدمار الذي ستتسبب به، والوبال الذي ستجرّه على الجميع بلا استثناء!
وبالنسبة للانتقادات الموجّهة إلى الأنظمة العربية التي ترتبط بمعاهدات واتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني على عدم قيامها بإلغاء هذه الاتفاقيات أو تعليق العمل بها.. فإنّ الردّ هو أنّ احتفاظ هذه الأنظمة بعلاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني يجعلها أكثر قدرة على لعب أدوار سياسية وإغاثية وإنسانية تساعد الشعب الفلسطيني في الداخل وتصبّ في مصلحته.. أكثر مما لو قامت هذه الأنظمة بقطع أو تجميد علاقاتها بالكيان.
وبالنسبة للانتقادات الموجّهة إلى الأنظمة العربية التي ما تزال تحتفظ بعلاقات تجارية مع الكيان الصهيوني، وتسمح بتدفق السلع والبضائع إليه ومنه، خاصة السلع الغذائية التي تمدّه بأسباب الصمود والاستمرار.. فإنّ الردّ هو أنّ الأنظمة العربية ترتبط بمعاهدات واتفاقيات تجارية يترتب عليها التزامات معيّنة، وهي لا تستطيع التنصّل من هذه الالتزامات فجأةً وما قد يترتب على ذلك من تبعات. كما أنّ التبادل التجاري الحاصل بين الدول العربية والكيان يتمّ في غالبيته عبر تجّار ومستثمرين من القطاع الخاص، والأنظمة العربية لا تستطيع أن تتدخّل في عمل القطاع الخاص، أو أن تضع عوائق ومحدّدات أمام حرية التجارة والتبادل.
وبالنسبة للانتقادات الموجّهة إلى الأنظمة العربية التي ما تزال تصرّ على تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني رغم كلّ الذي حصل.. فإنّ الردّ هو أنّ هناك أنظمة أخرى قد سبقت إلى التطبيع منذ زمن طويل ومع هذا فهي لا تتعرّض إلى نفس حجم الانتقادات والاتهامات. كما أنّ الفلسطينيين أصحاب القضية أنفسهم قد قاموا بتوقيع اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني وتطبيع علاقاتهم معه.
وبالنسبة للانتقادات الموجّهة للأنظمة العربية التي ما تزال تصرّ على تبنّي السلام كـ "خيار إستراتيجي" رغم سقوط القناع عن وجه "الكيان الصهيوني" والراعي الأمريكي.. فإنّ الجواب هو أن السلام وحده القادر على جلب "الأمان" و"الاستقرار" و"الازدهار" لجميع شعوب المنطقة.
مرّة أخرى، تطول قائمة الانتقادات والتهم، وتطول معها قائمة الإجابات والردود والتبريرات، وسواء أعجبتنا أم لم تعجبنا هذه التبريرات، فإنّنا لا نستطيع إنكار وجودها، ولا نستطيع الجزم بعدم صدق وإخلاص واقتناع أصحابها، ولا نستطيع مصادرة حقّ الأنظمة العربية بترديدها والتواري خلفها هي وأتباعها ومريديها!
لكن هناك انتقاد واحد فقط، مهما فكّر المرء وفكّر وفكّر وفكّر، ومهما حاول عصر دماغه، أو أن يتقمّص عقلية ونفسيّة قائد أو زعيم أو مسؤول عربي.. فإنّه لن يستطيع أن يجد أي تفسير أو تبرير متسق ومتماسك يمكن إشهاره في وجه أصحاب هذا الانتقاد:
ـ لماذا لم تعترف الأنظمة العربية [والإسلامية] لغاية الآن بفصائل المقاومة الفلسطينية كـ "حركات تحرّر وطنيّ" مشروعة؟!
لقد تمّ منذ انطلاق "طوفان الأقصى" عقد قمة إسلامية، وقمتين عربيتين اثنتين على مستوى الرؤساء، إلى جانب عشرات الزيارات المتبادلة واللقاءات الثنائية والجماعية.. ومع هذا لم نسمع للآن ببيان أو تصريح رسميّ، أو بزعيم أو قائد أو مسؤول عربيّ يخرج علينا ويعلن صراحةً اعترافه واعتراف نظامه بالمقاومة الفلسطينية وفصائلها؟!
ليس المطلوب من الأنظمة العربية أن تأتي بـ "خوارق" كأن تحارب، أو تلغي معاهدات، أو تقطع علاقات، أو توقف تبادل، أو أن تأتي - لا سمح الله - بأدنى تصرّف أو سلوك قد يحمّلها هي وجيوشها وأجهزتها "الجهد" و"المشقّة" و"الكلفة".. كلّ المطلوب هو كلام، فقط كلام؛ أن تعترف بفصائل المقاومة الفلسطينية ولو "من فوق الجوزة" كحركات تحرّر وطنيّ.. فهل هذا مطلب صعب وكثير؟!
قد يأتي ذكيّ ما ويقول: إنّ العرب قد اتفقوا منذ وقت طويل على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية [وامتدادها السلطة الوطنية الفلسطينية] ممثّلاً شرعيّاً ووحيداً للشعب الفلسطيني..
والجواب ببساطة هو: وما علاقة هذه بتلك؟! أو كما يقول التعبير الشعبي الدارج: "شو دخل طز بمرحبا"؟!
الحديث هنا ليس عن حقّ "التمثيل"، هذه مسألة إجرائية مختلفة، الحديث هنا عن حقّ الشعب الفلسطيني، كلّ الشعب الفلسطيني، بالمقاومة.. وبالتالي هذه ليست ضدّ تلك، وهذه لا تلغي تلك!
كما أنّ أصحاب مثل هذا التبرير يحاولون أن يوحوا ولو بطريقة مضمرة وغير مباشرة أنّ صفة "فلسطيني" لا يمكن أن تسري على الطرفين، "السلطة" و"المقاومة". وأنّ هناك نزاعاً فلسطينيّاً فلسطينيّاً على فلسطينيّة الفلسطينيّ، وهذا طرح متصهين خبيث يحاول ترسيخ الفُرقة والإنقسام داخل جسد الشعب الواحد والقضية الواحدة!
إصرار الأنظمة العربية على عدم الاعتراف رسميّاً بفصائل المقاومة الفلسطينية يضع هذه الأنظمة في قفص اتهام يصعب التملّص منه، ويُصعّب على المرء مهما حاول أن يدافع عنها، أو أن يقنع نفسه ويقنع الآخرين بصدق دوافع الأنظمة العربية ووجاهة إجاباتها ومبرراتها إزاء جميع الانتقادات والاتهامات الموجّهة إليها أعلاه!
* من فوق الجوزة: الجوزة المقصود بها الحنجرة. ومن فوق الجوزة أي الكلام الذي لا يعنيه المرء تماماً، ويقوله مجاملة أو مضطراً خلافاً لقناعته الحقيقية التي يضمرها في صدره وقلبه.