ما لا يمكن التفكير فيه: ايران، القنبلة، والاستراتيجية الأميركية
يعتبر كينث بولاك الباحث في معهد بروكينغز والمحلل السابق في وكالة الاستخبارات الاميركية والحاصل على الدكتواره من جامعة ييل الاميركيةمن ألمع الاستراتيجيين الأميركيين ومن أهم من يكتب في قضايا الشرق الأوسط والخليج وايران على وجه التحديد. فقبل الغزو الاميركي للعراق وضع كينث بولاك كتابا هاما حمل عنوان "العاصفة المهدده" وهو كتاب ترك اثرا كبيرا على طريقة تفكير الادارة الأميركية إذ اصبح الكتاب وبسرعة البرق مرجعا هاما لكل القوى السياسية التي حرّضت على التخلص من نظام صدام حسين. في ذلك الكتاب جادل كينث بولاك بأن ايقاف صدام حسين لا يتم الا بالخيار العسكري.
لكن وعلى نحو لافت، يأتي هذا الكتاب الجديد كصدمة للقوى التي تدق طبول الحرب والتي كانت تعول على باحث من وزن كينث بولاك لكي يدلي بدلوه تأييدا للخيار العسكري. فالباحث في كتابه الجديد عن ايران والقنبلة والاستراتيجية الاميركية والذي طرح بالاسواق قبل شهرين يعترض على الخيار العسكري كمقاربة لمعالجة الملف النووي ويحلل بشكل دقيق وعميق الخيار العسكري المتاح لكي يدحضه وهو ما قام به على صفحات الكتاب التي تجاوزت الخمسمائة صفحة، وفي هذا السياق يتناول كينث بولاك الموقف الاسرائيلي وتعقيداته ويستخلص انه لو كان الخيار العسكري خيارا مفيدا لما ترددت اسرائيل من توظيفه كما فعلت عندما ضربت المفاعل النووي العراقي عام ١٩٨١.
اعتقد انه وعلى العكس من كتابه الاول "العاصفة المهدة" والذي وظفه انصار الحرب لاقناع الشارع الاميركي لاحتلال العراق فإن كتابه الثاني فيه تحليل استراتيجي غاية في الدقة والذكاء سيستخدمه معارضو الخيار العسكري حتما في حال اشتد النقاش العام حيال الخيار العسكري وهو نقاش آخذ في الصعود تقوم به القوى المؤيدة لإسرائيل بدفع خيار الحرب الى الواجهة كما قامت بذلك قبل حرب العراق وهو دور قام به لوبي اسرائيل الذي كشفه بشكل مفصل كل من جون ميرشايمر وستيفن والت في كتابهما الشهير الذي حمل عنوان “لوبي اسرائيل.”.
بدوره وفي اكثر من مناسبة تعهد الرئيس اوباما بأنه ملتزم باستراتيجية المنع لأن الولايات المتحدة لا تستطيع ان تتعايش مع ايران النوويةعداك عن اسرائيل التي تعتبر ايران النووية تهديدا وجوديا وتمهيدا لهلوكوست جديد لهذا يحاول المؤلف اقناع الادارة الاميركية بعبثية الخيار العسكري الذي قد يتطور وينتهي في حال وضعه موضع التنفيذ باحتلال اميركي لايران إذ يصر كينث بولاك على ان هناك خيارات أقل سوءً بالنسبة لواشنطن..
قبل اسبوع التقيت كينث بولاك على عشاء وتحدثت معه مطولا عن كتابه حيث عبرت عن المفاجأة فيما اعتبرته تغيرا في موقفه، لكنه قال لي بأنه لم يغير موقفه وأنه بالفعل بدأ التفكير جديا بالاكتفاء باحتواء إيران منذ عام ٢٠٠٤ وهي الفكرة التي وضعها في كتابه الاخر بعنوان "الاحجية الفارسية" الذي صدر في عام ٢٠٠٤ وفيه لامس المؤلف فكرة الاحتواء بسبب ما اعتبره عبثية الخيار العسكري وعدم جدواه.
في الكتاب الجديد يستعرض المؤلف وبشيء من التفصل المقدرات النووية الايرانية ويرى أن ايران اكتسبت معرفه علمية بالموضوع النووي لا يمكن لأي ضربة عسكرية مهما كانت متقنه ان تخرجها من عقول العلماء الايرانيين، فيمكن على سبيل المثال ان تنجح ضربة عسكرية اسرائيلية او ضربة اميركيه في اعاقة المشروع النووي لعدة سنوات لكنها لن تتمكن من حرمان ايران من المقدرة ان فكرت بعد ذلك باعادة انتاج المشروع وتحصينه بحيث يكون عصيا على اي ضربة عسكرية أخرى. ويستطرد الكتاب في رسم السيناريوهات في تنفيذ ضربة عسكرية والتي عندها قد تلجأ ايران الى الارهاب الدولي وهو ما سيدفع الى احتلال اميركي لإيران والتورط في مغامرة عسكرية لا تحتاجها اميركاوبخاصة وهي في حالة تعافي من الازمة الاقتصادية العالميةولن يوافق عليها الشعب الاميركي..
فالخيار العسكري- مع انه متاح- الا انه يشكل كابوسا اميركيا بامتياز، لذلك يقترح كينث بولاك اعادة التفكير بنموذج سياسة الاحتواء التي ابتدعها جورج كينان في التعامل مع الاتحاد السوفييتي والتي كانت تقتضي التضييق على الخصم والتقليل من نفوذه وتأثيره الى ان ينهار من الداخل. واعادة التفكير بمثل هذا النموذج يستلزم فرض العقوبات الاقتصادية القاسية وهو ما تقوم به الولايات المتحدة الان، ويمثل هذا الموقف ضربة لموقف الصقور داخل وخارج الادارة الاميركية الذين يجادلون بأن الحل هو بالخيار العسكري في نهاية الامر وانه لا يمكن مجرد التفكير في التعايش مع ايران النووية عداك عن احتوائها عندما تكون نووية. ويبين المؤلف بشيء من التفصيل كيف ان استراتيجية الاحتواء ستكون مجزية لانها في نهاية الامر ستفضي الى سقوط النظام الايراني من الداخل بفعل العقوبات الاقتصادية وتشجيع المعارضة الداخلية في قادم الايام على الثورة على النظام.
بشكل عام يستعرض الكتاب ويقيم الخيارات المتاحة امام صانع القرار الاميركي، والخيارات هي: مضاعفة الجهود في توظيف سياسة العصا والجزرة عن طريق مزيج من المفاوضات والعقوبات، مساعدة المعارضة الايرانية في الداخل لتغيير النظام، ضربة عسكرية اسرائيلية، ضربة عسكرية اميركية، احتواء ايران النووية. ويغوض الكتاب في طريقة تفكير الادارة الاميركية وبخاصة وان عليها ان تتخذ قرارا في القريب العاجل في خضم اقليم شرق اوسطي متقلب ومتغير. وهنا يستعرض الكاتب الاتجاهات السائدة في التعامل مع هذه النقطة على وجه التحديد.
هناك نقطة في الكتاب ربما تخلق اشكالية اكثر من اي شيء آخر، فالمؤلف يقول ان حرب عام ٢٠٠٣ في العراق كانت ضرورية لفشل الاحتواء والردع، ومع ان هذا الكلام غير دقيقفالرئيس صدام حسين وتحت وطأة العقوبات تخلى عن المشروع النووي .لنا هنا ان نسأل في حال فشل الاحتواء وبقاء النظام الايراني بسلاح نووي، فهل عندها سيكون الخيار العسكري متاحا مع دولة تمتلك خيارات نووية؟ فمنطق كينث بولاك في حالة العراق هو ان فشل الاحتواء فرض الحرب، لكن كيف يقول ان على اميركا تجنب الحرب والاكتفاء بالاحتواء ولا يتوقع ان يفشل الاحتواء وتصبح الحرب امرا مقضيا؟!؟
بكل تأكيد فأن افكار بولاك على وجاهتها هذه المرة قد تصطدم مع تطور ثقافة امنية واستراتيجية في الغرب ترى في الاحتواء تعبيرا ملطفا للاسترضاء، والحقيقة ان الاستراتيجيين الاميركيين الآخرين لا يحبذون فكرة الاحتواء اذا كان خيار المنع قائما، فهناك رفض في التعايش مع ايران النووية. وما من شك ان اي خيار يعتمد على جملة من المتغيرات، فالخيارت الخمس التي ذكره الكاتب تعني في نهاية المطاف ان المفاوضات الجارية الان تكتسب اهمية قصوى لان فشلها يعني أن امام اوباما سيكون هناك خياران فقط هما: الحرب او الاحتواء، وبطبعية الحال فإن بولاك يؤيد الخيار الاخير كبديل افضل عن الحرب.
ما قدمته من عرض لا يكفي ولا يغني عن قراءة الكتاب، اذا لا يعقل ان اتمكن من سرد الكتاب في عجالة وبخاصة للذين يريدون معرفة طريقة تفكير الادارة وكيف تصنع خياراتها وما هي المتغيرات ومن هم اللاعبون في نهاية المطاف..