طوفان الأقصى.. سلوك السلطة يكرّس "الكلاحة" في المجتمع!
كمال ميرزا
جو 24 :
يمكن تصنيف الناس من حيث إحساسهم بالحياء والخجل والعار تجاه ما يحدث لأشقائهم في غزّة، أو من حيث "مرايا ذواتهم" بهذا الخصوص، إلى أربع فئات رئيسية هي:
الفئة الأولى: قلّة قليلة ما تزال متمسّكة بمروءتها وتوادّها وتراحمها وسهرها وحمّاها (إشارةً إلى الحديث النبويّ الشريف) منذ اليوم الأول لحرب الإبادة والتهجير المُمنهجة التي يتعرّض لها أهالي غزّة.
وأبناء هذه الفئة انطلاقاً من إحساسهم الجذريّ بوحدة الدم والانتماء يتعاملون مع مُصاب أهالي غزّة باعتباره مصابهم، ويتحرّجون من مزاولة تفاصيل حياتهم اليوميّة بشكل اعتياديّ وكأنّ شيئاً لم يكن، خاصةً من حيث طقوس الفرح والاحتفال بالمناسبات المختلفة، أو من حيث الحديث عن شؤون خاصّة أو الخوض في تفاصيل أو اهتمامات أو هموم شخصيّة في مقابل هول الهمّ العامّ والفجيعة العامّة.
الفئة الثانية: أغلبية تتعاطف وجدانيّاً وبشكل حقيقيّ وصادق مع مُصاب ومعاناة أهالي غزّة، لكنّهم في نفس الوقت لا يستطيعون كبح جماح رغباتهم وضروراتهم الاجتماعيّة تماماً، ومنع أنفسهم من الفرح والاحتفال وتفويت المناسبات المختلفة أو تأجيلها حتى إشعار آخر، خاصة إذا كانت من نوعية مناسبات "المرّة الواحدة"، كالنجاح في الثانويّة العامّة، أو التخرّج من الجامعة، أو الزواج.
وهؤلاء يحاولون الموازنة بين تعاطفهم الوجدانيّ وإحساسهم بالذنب والتقصير، وبين رغبتهم بالفرح والاحتفال وعدم تفويت الفرصة، وذلك من خلال محاولة اجتراح صيغ تلطيفيّة أو مخفَّفة للاحتفال، أو الإتيان بحركات ولمسات رمزيّة يعبّرون فيها عن تضامنهم مع أهل غزّة وعدم نسيانهم حتى وهم في غمرة فرحهم واحتفالهم.
ومجرد محاولة أبناء هذه الفئة الإتيان بصيغ ولمسات من هذا النوع، سواء وُفّقوا في ذلك أو لم يوفّقوا، هو بحدّ ذاته شاهد على معدن هؤلاء الطيب، وأنّهم في دواخلهم ما يزالون يمتلكون ضميراً حيّاً وحدّاً أدنى من الوازع الدينيّ والأخلاقيّ والإنسانيّ الذي يمكن البناء عليه.
الفئة الثالثة: أغلبية لاذت بالصمت في البدايات إنطلاقاً من طبع الجُبن والنذالة والخِسّة المتجذّر فيها، ثمّ أصبح صوتها يعلو وحضورها يزيد شيئاً فشيئاً مع مرور الوقت.
وأبناء هذه الفئة هم أشخاص عديمو المروءة فاقدون لماء الوجه يتعمّدون بشكل وقح وصفيق المبالغة في التعبير عن مظاهر فرحهم واحتفالهم بأكثر مما اعتادوا عليه وعُرِف عنهم في الظروف الاعتيادية، والمشاركة والانخراط والانهماك في المناسبات المختلفة بشكل استعراضيّ ومفرط وممجوج.. وذلك من قبيل إيصال رسالة مفادها أنّهم غير معنييّن بما يحدث في غزّة، وأنّ ما يحدث هناك ليس أولويّة بالنسبة لهم، وأنّ ذنب أهالي غزّة على جنبهم وجنب مقاومتهم، وأقصى ما يمكن أن يقدّموه بهذا الخصوص هو إبداء بعض التعاطف الكلاميّ و"النقد الموضوعيّ" للحالة!
الفئة الرابعة: وهي أقليّة "مش فارقة معها" لا قبل "طوفان الأقصى" ولا بعده، تواصل حياتها كما هي، ولا يعني أبناءها ما حدث وما يحدث وما يمكن أن يحدث بكونهم في المُجمل أشخاص أنانيّون متمركزون حول ذواتهم، ويمتلكون رفاهيّة وبحبوحة أن تكون رغباتهم وميولهم وأهوائهم ومتعتهم وتسليتهم الشخصية هي أولى أولويّاتهم.. ولا يعنيهم "الشأن العام" لا من قريب أو بعيد أيّاً كانت أهواله أو مآلاته!
البعض قد يظنّ أنّ مثل هذه التصنيفات هي تصنيفات ارتجاليّة أو اعتباطيّة غير علميّة أو منهجيّة تأتي من قبيل تنطّع الكتاب وفزلكتهم وتنظيرهم وتذاكيهم.
لكن لا، التصنيفات أعلاه هي توصيف لأنماط سلوك حقيقيّة موجودة في المجتمع استناداً إلى متغيّرات قابلة للملاحظة ومؤشّرات قابلة للقياس.
والتصنيف أعلاه يستند بشكل أساسيّ إلى متغيّرين اثنين هما "الوعي" والإرادة" يرسمان الحدود "النوعيّة" بين الفئات/ الأنماط المختلفة المندرجة تحت الظاهرة الواحدة.
وكلّ متغيّر من هذه المتغيّرات يمثّل بدوره متّصلاً يتدرّج عليه الأفراد والجماعات "كميّاً" من حيث قوة هذا المتغيّر أو ضعفه، أو مدى حضور المتغيّر أو غيابه (أو حضور نقيضه).
ولمّا كان حديثنا هنا يدور عن متغيّرين نوعيّين اثنين، وكلّ متغيّر يمتلك خيارين أو نهايتين حدّيتين نظريّتين اثنتين، فكان من المتسق والمنطقي أن تنجم لدينا أربعة أنماط سلوكيّة للظاهرة الواحدة كما يلي:
الفئة الأولى: إرادة قويّة ووعي قويّ (مع الأخذ بعين الاعتبار مرّ أخرى أنّ القوّة والضعف هنا هي قيم فرديّة متدرّجة وليست قيمة جمعيّة مطلقة).
الفئة الثانية: إرادة ضعيفة ووعي قويّ.
الفئة الثالثة: إرادة قويّة ووعي ضعيف (حضور وعي سلبيّ أو مضاد أو مزيّف أو شاذ).
الفئة الرابعة: إرادة ضعيفة ووعي ضعيف (أو حتى غياب الوعي).
وبعد الانتهاء من وصف الظاهرة من خلال تجريد أنماط تمثّلها وتجسّدها على أرض الواقع، يتم الانتقال إلى المستوى الثاني من مستويات التحليل وهو قراءة المنحى أو النزعة التي تتخذها الظاهرة عبر الزمن.
وبعد أكثر من عشرة أشهر على انطلاق معركة "طوفان الأقصى"، وحرب الإبادة والتهجير الصهيو - أمريكية، نلاحظ أنّ هناك ثباتاً في النمطين الأول (الملتزمون) والرابع (اللامبالون)، في حين أنّ هناك انحساراً في النمط الثاني (الخجولون) لصالح أو لحساب النمط الثالث (الوقحون أو الصفيقون أو عديمو ماء الوجه).
وتفسير مثل هذه النزعة يكون من خلال دراسة محصلة القوى في الاتجاهين اللذين يمكن أن يُفرض من خلالهما التغيير في أيّ بُنية اجتماعيّة قائمة، أو ما يُسمّى "التكامل":
ـ التكامل من أسفل لأعلى.
ـ التكامل من أعلى لأسفل.
لكن لمّا كان التكامل من أسفل إلى أعلى، بمعنى الموقف المجتمعيّ أو الشعبيّ الذي يحاول الضغط لأعلى، ما يزال مؤيداً لأهالي غزّة والمقاومة و"طوفان الأقصى" ويصبّ في صالحها.. فإنّ تفسير هذه الزيادة في الوقاحة والكلاحة لا بدّ وأن يكمن في التكامل من أعلى إلى أسفل، أي الضغط الذي تمارسه "السلطة" و"قمّة الهرم" على بقية أجزاء البُنية الاجتماعيّة تحتها (والذي يفوق الضغط الحاصل من أسفل إلى أعلى)!
بكلمات أخرى؛ سلوك السلطة وقراراتها وإجراءاتها هي التي عزّزت وكرّست سلوك "الكلاحة" في المجتمع، و"قوّت عين" أصحاب هذا السلوك، وشجّعتهم على رفع أصواتهم والمزاودة على الآخرين والتنمّر عليهم حدّ الاستقواء!
وتبدو هذه نتيجة منطقية ومتسقة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما يلي:
ـ رفض السلطة الاستجابة للمطالب الشعبية بتجميد المعاهدات والاتفاقيات الموقّعة مع الكيان الصهيوني، وقطع كافّة أشكال العلاقات والتبادل معه حتى إشعار آخر.
- رفض السلطة الاستجابة للمطالب الشعبية بإعلان التعبئة العامة، وإعادة العمل بالخدمة الإلزامية وتسليح الشعب (الجيش الشعبي).
- رفض السلطة الاعتراف بفصائل المقاومةرسميّاً كحركات تحرّر وطني مشروعة.
- رفض السلطة إلغاء الاتفاقيات العسكريّة الموقّعة مع دول تجاهر بإنحيازها للكيان الصهيوني، ودعمه، والدفاع عن أمنه، وهي الاتفاقيات التي تخوّل قوّات هذه الدول استخدام تراب الأردن وسمائه وقواعده وبناه التحتيّة.
- تصاعد حدّة قمع السلطة للمظاهرات والحِراكات والمظاهر الاحتجاجيّة، والتوسّع في اعتقال الناشطين والحراكيين.
- التوسّع في تطبيق النصوص المطّاطة للقوانين المُقيّدة لحرية الرأي والتعبير بحقّ الأصوات المُنتقدة والمعارضة.. في مقابل التراخي والتساهل مع أصحاب الأصوات والأقلام المُزاودة والمُحرّضة باسم الانتماءات القُطريّة، والشوفينيّة الوطنيّة والقوميّة، والخطاب الطائفيّ والمذهبيّ.
- إصرار السلطة على الاحتفال والاحتفاء المبالغ فيه بالمناسبات الوطنيّة، وتنظيم مختلف أنواع المهرجانات والنشاطات والفعاليّات رغم حساسية الظرف والسياق والانتقادات الواسعة، والتحشيد والترويج و"الطنطنة" لجميع هذه الفعاليّات بما يفوق حجمها وأثرها الحقيقيّين.
- اجتهاد السلطة وتفانيها في تكريس فكرة أنّ حدود مسؤوليّتها والتزامها تجاه ما يحدث في غزّة تنحصر في الجهود الإغاثيّة الإنسانيّة، وفي النشاط الدبلوماسيّ والحقوقيّ في إطاره الأمميّ وفي ضوء ما يسمّى القانون الدوليّ والشرعيّة الدوليّة.. ولا شيء أكثر من هذا!
التحليل العلميّ/ السوسيولوجيّ أعلاه فيه تفنيد للمقولة التي يحلو لمَن يُطلَق عليهم اسم "علماء السلطان" ترديدها كنوع من "لوم الضحيّة" وهي: "كما تكونوا يُولّى عليكم".. ويصبّ أكثر في صالح العبارة القائلة: "الشعوب على دين حكّامها"!
وهذا المنظور يتمتّع بقيمة تفسيريّة عالية تساعدنا في فهم طيف من المشاهدات والظواهر (غير الموقف من غزّة وطوفان الأقصى) التي تبدو للوهلة الأولى غريبة أو مستهجنة أو متناقضة:
كأن يتحوّل مجتمع ما بين ليلة وضحاها من مجتمع ينفر من الأحزاب ويتوجّس منها ومن منتسبيها خيفةً، إلى مجتمع يؤمن بالحياة الحزبية ويُقبِل على المشاركة والانخراط فيها.. فقط لأنّ السلطة قرّرت ذلك وتريد ذلك!
أو كأن يتحوّل مجتمع ما بين ليلة وضحاها من مجتمع محافظ متديّن يلتزم بتعاليم الشريعة وحدودها، إلى مجتمع علمانيّ منفتح.. فقط لأنّ السلطة قرّرت ذلك وتريد ذلك!
أو كأن ينتقل مجتمع ما بين ليلة وضحاها من حالة الرفض للصهيونيّة والعِداء لها، إلى حالة التصالح والتطبيع معها ومبادلتها الحبّ والهيام بذريعة وحدة الأديان والأخوّة الإبراهيميّة.. فقط لأنّ السلطة قرّرت ذلك وتريد ذلك!
كما أنّ تصرّفات السلطة وإجراءاتها أعلاه تحفّز لدى الفئات "المكلحة" أو "القابلة للكلاحة" في المجتمع سلوك نفاق السلطة والتزلّف لها.
وفي المجتمعات التي ما تزال تحتكم إلى السلطة المُطلقة للزعيم "الأوحد" أو "المُلهَم" أو "قائد الضرورة" أو "ظلّ الله في الأرض" أو الذي "لا يُري الناس إلّا ما يرى".. فإنّ "الحسابات العقلانيّة" للأفراد والجماعات تقتضي أنّ نفاق السلطة وخطب ودّها، طمعاً في مكافآتها و/أو تلافياً لغضبها وعقوباتها، هي قيمة مسبّقة على أيّ قيمة أخرى حتى وإن كانت إبداء التضامن والتعاطف والتعاضد مع أشقّاء الدين والدم والتاريخ والمصير المشترك!