إسرائيل الصغيرة وكلام ترامب الكبير!
كمال ميرزا
جو 24 :
كلّ مَن يتخذ موقف عداء مِن الكيان الصهيونيّ، ومِن الهيمنة الأمريكيّة، ومِن مجمل المشروع الإمبرياليّ الرأسماليّ الغربيّ، سيرفض حتماً تصريحات "ترامب":
ـ "مساحة إسرائيل صغيرة وطالما فكرتُ في كيفيّة توسيعها".
لكن الأهم من الرفض هو أن نفهم جيداً ما هذا الذي نرفضه، أو الذي ينبغي علينا أن نرفضه، حتى نستطيع أن نعرف كيف يمكن لنا ترجمة هذا الرفض عمليّاً إلى واقع ملموس.
الأمر أشبه بالمرض الذي يجب أن نشخّصه بشكل دقيق أولاً حتى يتسنى لنا تحديد الأدوية الصحيحة والخطة العلاجيّة الأنسب من أجل مواجهته واحتوائه والقضاء عليه.
غالبية المواقف الرافضة لتصريحات "ترامب" جاءت على طريقة الذي توقّف عند الصداع، وظنّ أنّه هو المرض، وصبّ كلّ جهده وتركيزه على التعامل مع هذا الصداع وإسكاته متوهماً الشفاء.. وفاته أنّ الصداع هو مجرد مظهر وعرض خارجي لمرض أكثر جذريّةً وكموناً وخطورةً يفتك بالجسد من الداخل!
نقطة الانطلاق من أجل تشخيص مكمَن المرض/ الخطورة في تصريحات "ترامب" هو أن نسأل أنفسنا: ما هي إسرائيل!
ظاهريّاً، إسرائيل هي ذلك الكيان المسمّى "دولة إسرائيل"، والذي يشكّل حسب سرديّة أصحابه وسرديّة الغرب الذي صنّعه "وطناً قوميّاً للشعب اليهودي" له "الحقّ بالوجود" و"الدفاع عن نفسه".
لكن خرافة "الشعب اليهودي الواحد" و"القوميّة اليهوديّة"، وخرافة "أرض الميعاد"، هما الكذبتان اللتان قام المشروع الصهيونيّ الغربيّ بفبركتهما ليس من أجل خداع العرب والمسلمين، وإنّما من أجل خداع اليهود أنفسهم في شتاتهم، وإقناعهم بالهجرة إلى هذا الكيان الاستيطاني الإحلالي، للتخلّص منهم ومن عبئهم أولاً، ومن أجل تحويلهم إلى "أداة" وإلى "جماعة وظيفيّة" تخدم المشروع الصهيونيّ الذي هو نفسه المشروع الإمبرياليّ الرأسماليّ الغربيّ.
وعليه فإنّ إسرائيل "الحقيقيّة"، أي إسرائيل بالنسبة لصّناعها ومختلقيها ورعاتها، ليست "دولةً" أو "وطناً"، بل هي عبارة عن "كيان وظيفيّ" يلعب دور قاعدة متقدّمة من أجل خدمة المشروع الإمبرياليّ الغربيّ، وإحكام سيطرته وهيمنته على "الوطن العربي" وامتداده الحضاريّ المُسمّى "الشرق الأوسط" باعتباره المنطقة الأهم عالميّاً من منظور الجغرافيا البحتة (قلب العالم وهمزة وصل الشرق بالغرب)، والجغرافيا السياسيّة (مَن يسيطر عليه يسيطر على العالم)، والجيولوجيا (الثروات الطبيعية خاصة النفط والغاز/ أمن الطاقة)، والإيديولوجيا (مهد الإسلام العدو الوجوديّ للحضارة الرأسماليّة الغربيّة).
من هنا فإنّ "توسيع إسرائيل" وفق تصريحات "ترامب" الذي ينتمي إلى الجمهوريّين البروتستانتيّين المحافظين الجدد، والمرشح لرئاسة أمريكا واجهة المشروع الصهيونيّ الإمبرياليّ الرأسماليّ العالميّ في طوره الحالي.. لا يعني بالضرورة توسيع الحدود السياسيّة ورقعة الأراضي التي تشغلها "إسرائيل الصغرى" حاليّاً.. بمقدار ما يعني توسيع "الدور الوظيفيّ" الذي تقوم به إسرائيل (وما عاد كافياً وما عادت تصلح له) ليشمل أكبر نطاق جغرافيّ ممكن وأكبر عدد من دول وكيانات المنطقة.
من هنا نستطيع أن نفهم سرّ اللوثة الأمريكيّة من أجل توسيع رقعة انتشار قواعدها العسكريّة وتواجدها العسكريّ في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، وآخرها احتلالها شرق الفرات السوريّ وإقامة منظومة من القواعد العسكريّة هناك.
ومن هنا نستطيع أن نفهم سرّ اللوثة الأمريكيّة لشرعنة تواجدها العسكريّ من خلال توقيع اتفاقيّات تعاون وشراكة مع دول المنطقة مع أنّ الوجود قديم والتعاون قديم دون اتفاقيّات.
ومن هنا نستطيع أن نفهم كلّ هذا الحديث عن تشكيل حلف دفاعيّ عربيّ/ أمريكيّ/ إسرائيليّ على غرار حلف شمال الأطلسيّ، أو ما يسمّى "الناتو العربي".
ولو نظرنا إلى خارطة انتشار القواعد الأمريكيّة والقوّات الأمريكيّة في المنطقة حاليّاً، لوجدنا أنّ المنطقة من شمال الفرات السوري حتى جنوب الجزيرة العربيّة، ومن غرب العراق شرقاً وحتى شرق مصر (سيناء) غرباً.. هي عبارة عن ثكنة أمريكيّة، أو قاعدة أمريكيّة متقدّمة كبيرة، أو "إسرائيل كبرى" بالمعنى الوظيفيّ المبيّن أعلاه!
وضمن هذه الجغرافيا فإنّ هناك جيوب من الممانعة التي ما تزال منفلتة من هذا الفضاء الاستعماري هي: غزّة، والضفة الغربيّة (إلى حدّ ما)، ولبنان (غالبيته)، والأجزاء غير المحتلّة من سوريا، واليمن (باستثناء عدن).
أما إيران شرقاً، وتركيا شمالاً، ومصر غرباً فهي "خطوط المواجهة" التي تضغط على هذه الجغرافيا الإمبرياليّة الأمريكيّة، والتي تحاول أمريكا من طرفها أن تقوّضها، أو تهتّكها، أو تحاصرها، أو تخنقها، أو تبتلعها، أو تحتويها، أو تستميلها بهذه الطريقة أو تلك.
وبالنسبة لـ "صفقة القرن"، والتي عرّابها أيضاً "ترامب"، فهي محاولة لشرعنة هذا الأمر الواقع العسكريّ الذي فرضته أمريكا على دول المنطقة طوعاً أو كرهاً أو ابتزازاً، وتحويله إلى حقيقة سياسيّة مُسلّم بها وواقع يوميّ اعتياديّ معاش من خلال "التطبيع"، ومن خلال "السلام الاقتصادي"، ومن خلال دمج "إسرائيل الصغرى" في المنطقة!
مرّة أخرى، توسيع إسرائيل وظيفيّاً لا يستدعي بالضرورة توسيع حدود إسرائيل الحاليّة لأبعد مما قد رُسم لها عند تأسيسها، ولا يستدعي من دول المنطقة أن تتخلّى بدورها عن كياناتها وحدودها وأراضيها وأعلامها وأجهزتها ومؤسساتها، ولا يستدعي من "إسرائيل الكبرى" أن تكون دولةً واحدةً ووطناً قوميّاً واحداً بالمعنى التقليديّ للكلمة.
فإسرائيل الكبرى "الجديدة" ليست يهوديّة بل "إبراهيميّة". وشكل الدولة التقليديّ أساساً، أو ما يُسمّى "الدولة الويستفاليّة" ومفهوم "السيادة" المرتبط بها، قد تجاوزه المشروع الإمبرياليّ الغربيّ منذ زمن، وتمّ ويتمّ تقويضه بشكل حثيث لصالح حكم الشركات العابرة للحدود والقوميّات الذي تلعب فيه البنوك ومنظمات المجتمع المدنيّ دور رأس الحربة، و"الرقمنة" الأداة الرئيسية للضبط والتحكّم والسيطرة!
الأمر هنا أشبه بما يسمّى "مشروع شمعون بيريز" الذي ضمنّه في كتابه بعنوان "الشرق الأوسط الجديد" الصادر سنة 1996، لكن بدلاً من صيغة: عقل يهودي، رأس مال خليجي، أيدي عاملة عربيّة.. فإنّ الصيغة المُحدّثة هي: أقليّة من المستثمرين والتجّار والصيرفيّين والسماسرة "الصهاينة" عرباً ويهوداً وغربيّين، يستغلّون ويمتصّون دماء أغلبيّة خاضعة ومروّضة ومُراقَبة من العرب واليهود وسائر الملل والطوائف التي تحتضنها فسيفساء المنطقة.
أي أنّ المواطن العربي "العاديّ" والمواطن اليهودي "العاديّ" كلاهما "ضحية"، وكلاهما "مضحوك عليه" وفق هذا المخطّط الشيطاني!
أو بكلمات أخرى، هو "صراع طبقيّ" بُنيةً.. ذو أبعاد دينيّة وقوميّة وإثنيّة مضموناً.
ومن هنا نستطيع أن نفهم سرّ عدم اكتراث قادة الكيان (هذه الواحة الديمقراطيّة) ورعاتهم الأمريكيّين بمواطني إسرائيل نفسها في سبيل أهدافهم وغاياتهم الصهيونيّة، سواء الرهائن لدى المقاومة (الذين تسعى إسرائيل فعليّاً منذ اليوم الأول إلى قتلهم والتخلّص منهم كورقة ضغط)، أو الجنود المنهكين المتخبّطين الذين يموتون جرّاء حرب استنزاف هدفها الإبادة والتدمير لا الحسم العسكريّ، أو مستوطني الشمال الذين تشرّدوا عن مستوطناتهم، أو المليون الذين حملوا حقائبهم وغادروا إسرائيل عائدين إلى مواطن شتاتهم، أو آلاف الشركات والمصالح المتوسطة والصغيرة التي أفلست وأغلقت أبوابها!
في ضوء التشخيص أعلاه، فإنّ الوقوف الحقيقي في وجه تصريحات "ترامب"، وتقويض مشروع توسيع إسرائيل، أو إسرائيل الوظيفيّة الكبرى، لا يمكن أن يتحقّق بمجرد الانتصار في معركة "طوفان الأقصى" على إسرائيل الصغرى، ولا حتى بالقضاء على هذه الإسرائيل الصغرى، بل بـ "ضرب" التواجد العسكريّ الأمريكيّ في المنطقة برمّته وتصفيته بشكل نهائي..
سواء أكان ذلك من خلال المعنى العسكريّ المباشر لكلمة ضرب..أو من خلال محاولة الدول العربية فكّ ارتباطها العسكريّ (وغير العسكريّ) بالأمريكان، وإنهاء الاتفاقيات الموقّعة أو التملّص منها، والطلب من الأمريكان إخلاء قواعدهم وتسليمها إلى أصحابها (لمن استطاع لذلك سبيلاً!)..أو من خلال قيام الدول العربية بتحسين وتوطيد علاقاتها مع قوى إقليميّة وعالميّة أخرى، وتعزيز تعاونها معها دفاعيّاً وفي شتّى المجالات.
وللأمانة والإنصاف، هناك دول عربيّة من خارج إطار "محور الممانعة" نراها تحاول، على الأقل في شقّها "العميق"، الانفكاك من التبعيّة لأمريكا شيئاً فشيئاً، و"من تحت لتحت"، وذلك في حدود حجمها وإمكاناتها وهامش الحركة والمناورة المتاح أمامها..
لكن في المقابل هناك للأسف أنظمة عربيّة نراها متماهيةً مع مشروع "إسرائيل الكبرى" بصورة تذكّر بنموذج "اليهوديّ الوظيفيّ" الذي تحدّث عنه الدكتور "عبد الوهاب المسيري"، وبصورة تُشعرك أنّ هؤلاء أكثر صهيونيّةً من "نتنياهو" و"ترامب" و و"بايدن" و"هاريس".. وحتى من الشيطان نفسه!
جميع الكلام أعلاه لا يلغي أنّ "إسرائيل الوظيفيّة الكبرى" تحتاج إلى "مرتكَز" من نوع ما على الأرض، أو "غرفة عمليات"، أو "منطقة خضراء" على غرار المنطقة الخضراء التي أسّسها العدو الأمريكيّ بعد احتلال العراق.. لكن نقطة الارتكاز هذه ليس بالضرورة أن تكون إسرائيل الصغيرة اليهوديّة القديمة كما نعرفها (والتي سقطت إستراتيجيّاً بعد طوفان الأقصى)، والأمر قد يستدعي البحث عن بدائل أو صيغ أو "هويّة" أخرى لهذه الإسرائيل!