ما بين خطابين وحرب: الوطن البديل.. والنهج البديل!
كمال ميرزا
جو 24 :
الخطاب الذي ألقاه الملك عبد الله الثاني بن الحسين في الاجتماع الأخير للجمعيّة العامّة للأمم المتحدة تضمّن إقراراً وتحذيراً من رأس الدولة الأردنيّة بالخطر الجسيم الذي باتت تمثّله عصابة الحرب الصهيونيّة التي يتزعّمها "نتنياهو" على المنطقة والعالم، والتي هي عصابة لم تأتِ من فراغ، ولم تسقط من السماء، ولم تتسلل إلى مواقعها ومقاعدها خلسةً، بل هي حكومة مُنتخبة "ديمقراطيّاً" تُمثّل بتطرّفها وإجرامها وغطرستها المزاج العام للمجتمع الإسرائيليّ (إذا جازت تسميته بالمجتمع)، والذي يتكوّن في مجمله من مستوطنين ولَمَم وحثالة ومرتزقة تقاطروا من جميع أنحاء العالم حين لم يستطيعوا أن يجدوا لأنفسهم فرصاً أفضل في عواصم غربيّة وشماليّة أسوة ببقية "صفوة" أو "كريما" أو "مترفي" الشعب اليهوديّ (إذا جازت تمسيته بالشعب)!
وطبعاً مثل هذا "المجتمع" لا يصلح قبل حكومته وقياداته السياسيّة وزعاماته الدينيّة لأن يكون "شريكاً للسلام" حتى بالنسبة لأولئك الذين ما يزالون يصرّون على أنّ ما يُسمّى السلام هو "خيار إستراتيجيّ" ويتمسّكون بهذه المقولة على عواهلها!
وخطاب الملك عبد الله الثاني تضمّن أيضاً إقراراً ضمنيّاً بإزدواجيّة معايير العدالة الدوليّة ومفاعيلها، وإخفاق وقصور مؤسّساتها. وإزدواجيّة معايير الحليف الأمريكي، أو الحلفاء الغربيّين والأطلسيّين عموماً، والذين يمنحون عصابة الحرب الصهيونيّة كامل الغطاء السياسيّ والحماية القانونيّة والدعم الماديّ والعسكريّ واللوجستيّ والعملياتيّ، وفي نفس الوقت يبتزّون أصدقاءهم العرب من أجل إبداء المزيد من "الاعتدال" و"التسامح" و"الشراكة" التي باتت ثلاثتها على ما يبدو طريقاً باتجاه واحد يضع الأنظمة العربيّة موضع الحرج أمام شعوبها وأمّتها وتاريخها وأجيالها وإرث سلالتها.
خطاب الملك عبد الله الثاني في الأمم المتحدة مهم وحسّاس، وقد وصفه البعض بـ "التاريخيّ"، ولكن حتى تكتمل أهميّة الخطاب، وحتى لا تتحوّل تاريخيّته إلى تأريخ، فلا بدّ من ترجمة هذا الخطاب إلى مفاعيل عمليّة وسلوك عمليّ ملموس على أرض الواقع.
وكما علّق الملك عبد الله الثاني الجرس دوليّاً وأمميّاً، فإنّ من المتوقّع منه باعتباره رأس الدولة الأردنيّة أن يقوم بتعليق الجرس وطنيّاً ومحليّاً، ولعل نقطة الابتداء هي القيام بتوجيه كتاب تكليف جديد للحكومة عنوانه "المراجعة" وليس "الاستمرار"!
وأول ما يحتاج إلى المراجعة هو النهج الاقتصاديّ النيوليبراليّ، والذي أوغل فيه الأردن وأوحل للأسف على يدّ خبراء وتكنوقراطيّين تتوقّف حدود خبرتهم وتكنوقراطيّتهم عند تلقّف كلّ ما يصدر عن مؤسسات المال والأعمال ودوائر صنع القرار الغربيّة من نظريات ومُقاربات وإملاءات اقتصاديّة، وتطبيقها بكفاءة وإخلاص بحذافيرها، دون امتلاك "موقف نقديّ" إزاءها بما يتناسب مع الألقاب الأكاديميّة والوظيفيّة الرنّانة التي يُفترض أنّ هؤلاء يحملونها، ودون إدراك ما تنضوي عليه من مخاطر سياسيّة على "دول الأطراف" لصالح "دول المركز" ضمن نظام رأسماليّ عالميّ شرس، ومخاطر اقتصاديّة على الأسواق الوطنيّة الناميّة والهامشيّة والتابعة وصغار المُنتجين المحليّين لصالح المراكز الماليّة العالميّة وكبار المُنتجين والمسوّقين العالميّين.
فالنيوليبراليّة الاقتصاديّة والسيادة الوطنيّة لا يجتمعان، والنيوليبراليّة الاقتصاديّة وامتلاك الإرادة الوطنيّة الحرّة لا يجتمعان، والنيوليبراليّة الاقتصاديّة ومقاومة ضغوطات وإملاءات أو حتى إغراءات "الوطن البديل" و"السلام الاقتصاديّ" أيّا كانت سيناريوهاتهما وصيغهما المطروحة لا يجتمعان!
بكلمات أخرى، رفض الوطن البديل يستدعي من الأردن مراجعة مساره الاقتصاديّ الحاليّ، وإرساء أسس اقتصاد بديل وقاعدة اقتصاديّة بديلة.
ونحن لا نتحدّث هنا عن إعادة "تأميم" الاقتصاد الوطنيّ، وإن كان هذا فعليّاً ما تحتاجه جميع شعوب ودول العالم للخروج من الأزمة الخانقة التي حشرّتها فيها تناقضات النظام الرأسماليّ العالميّ واستعادة الحدّ الأدني من "دولة الرفاه" ودولة "العقد الاجتماعيّ".. بل الحديث عن إعادة التأكيد على ولاية الدولة العامّة على الاقتصاد، والتخلّي عن نموذج "الدولة ـ الشركة"، وإعادة الاقتصاد بقطاعه الخاص ورأس ماله المغامر والمقامر والعابر للحدود لأن يكون تحت الدولة وليس فوقها أو ندّاً لها.
ولعلّ من أولى الأولويّات هنا وضع كامل منظومة التشريعات الاقتصاديّة والاستثماريّة على طاولة مجلس النواب الجديد فور انعقاده، ومن ضمنها قانون المُلكيّة العقاريّة، وقانون صندوق الاستثمار الأردنيّ، وقانون تشجيع الاستثمار، وسائر التشريعات المشابهة.. وذلك لحماية الاقتصاد الوطنيّ والسيادة الوطنيّة بالاتجاهين: منع تسلّل وتهريب رؤوس الأموال والسيولة وعوائد التنمية والاستثمار (والفساد) إلى الخارج.. ومنع تسلّل رأس المال الأجنبيّ إلى الداخل، ومن ضمنه رأس المال الصهيونيّ وشركائه ووكلائه وأعوانه، وتغلغلهم وتملّكهم لمفاصل الاقتصاد والمُقدّرات الوطنيّة، والبُنى التحتيّة القائمة أو قيد التنفيذ أو التي سيتم إنشاؤها، وفائض العقارات، وفائض العرض من أراضي الأردنيّين المطروحة للبيع بفعل الضائقة الماليّة وارتفاع كلف المعيشة التي يعاني منها المواطن الأردنيّ.
كما أنّ الأردن بحاجة إلى مراجعة مقاربته للأمنين "الوطنيّ" و"القوميّ"، سواء من حيث منظومة تحالفاته الإقليميّة والدوليّة، أو من حيث تعويله على اتفاقيات الدفاع المشتركة مع مختلف الدول، والنظر إلى حجم الكوادر البشرية ونوعية التسليح ورفع الجاهزية.
وهذه المراجعات تستدعي بالضرورة إجراء مراجعات موازية وتفصيليّة تغطي كلّ مجال من مجالات معيشة الناس، وكلّ مناط من مناطات ولاية الدولة العامّة، خاصة ما يتعلّق منها بحقوق المواطن الدستورية المكفولة مثل العمل والصحة والسكن والنقل والتعليم (مناهج وغير مناهج) وحريّة الرأي والتعبير.. الخ.
وحبذا لو تمّ بموازاة هذه المراجعات الالتفات والاستجابة أخيراً إلى المطالبات الشعبيّة التي لم تتوقّف منذ انطلاق معركة "طوفان الأقصى" وفي مقدمتها:
ـ إلغاء كافة المعاهدات والاتفاقيّات وأوجه التعاون والتبادل الموقّعة مع الكيان الصهيونيّ، أو على الأقل تجميدها حتى إشعار آخر.
ـ إعادة العمل بـ "خدمة العلم"، ليس فقط كرافد للقوات المسلّحة، بل والأهم كـ "بوتقة صهر" تعيد إنتاج الُلحمة والتضامن والهويّة الوطنيّة.
ـ إعادة العمل بـ "الجيش الشعبيّ" كردّ على قيام السلطات الصهيونيّة بتسليح قطعان المستوطنين في الضفّة الغربيّة، والاستفادة من "الجيش الرديف" الذي يمثّله نشامى متقاعدي القوات المسلّحة والأجهزة الأمنيّة (والذين ينتمي إليهم شهيدنا البطل ماهر ذياب الجازي).
ـ إطلاق سراح معتقلي الرأي ومعتقلي الِحراك الشعبيّ المؤيّد لمقاومة الأشقّاء في فلسطين، سواء من المشاركين في المظاهرات والاعتصامات، أو من الذين بادروا إلى جمع التبرّعات لدعم صمود الأهل في غزّة (ونخصّ بالذكر أحبتنا في حيّ الطفايلة الأبيّ).
ولا ضير لو استدعى ما تقدّم إعفاء حكومة الدكتور "جعفر حسّان" حتى قبل انعقاد مجلس النواب وخوض نقاشات الثقة، فالأوضاع الاستثنائيّة تستدعي إجراءات استثنائيّة، وليكن إرث حكومته أنّها إحدى أقصر الحكومات عمراً في تاريخ المملكة، وتكليف شخصيّة سياسيّة وازنة تحظى بإجماع وطنيّ من أجل تأليف الحكومة، أو حتى تشكيل حكومة "إنقاذ وطنيّ" إذا اقتضت الضرورة.
فمع كامل احترامنا وتقديرنا لشخص الدكتور "جعفر حسّان" وفريقه الحكوميّ وخبراتهم في الوظيفة الرسميّة والعمل العام، إلا أنّ مجال اختصاص وخبرة الدكتور "حسّان" قد لا تكون الأنسب في ضوء طبيعة التحدّيات الجسيمة التي يشهدها الأردن والمنطقة والعالم.
كما أنّ أداء الدكتور "جعفر حسّان" لغاية الآن على قصر مدته يوحي بأنّنا مرّةً أخرى بصدد "رئيس وزراء خدمات" إذا جاز التعبير على غرار مصطلح "نائب خدمات" شائع الاستعمال!
وتزداد أهميّة وحساسيّة جميع الطرح أعلاه في ضوء الخطاب الصفيق لرئيس عصابة الحرب الصهيونيّة "بينيامين نتنياهو" في الأمم المتحدة، وفي ضوء توسيع نطاق حرب الإبادة والتهجير الصهيونيّة لتشمل الشعب اللبنانيّ وسلسلة الغارات والاغتيالات الجبانة في العاصمة بيروت وسائر المدن اللبنانيّة، وفي ضوء تبجّح "تتنياهو" كبلطجي لا يجد مَن يوقفه عند حدّه بأنّه سيعيد رسم ملامح الشرق الأوسط، وفي ضوء الردّ الإيرانيّ على اغتيال الشهيد القائد "إسماعيل هنيّة" على أراضيها (الوعد الصادق 2)، وفي ضوء السعار الصهيونيّ والأمريكيّ للتصعيد وجرّ المنطقة لحرب إقليميّة واسعة والردّ على الردّ، استعجالاً للحسم، ولخلق ذريعة من أجل استهداف البرنامج النوويّ الإيرانيّ والتخلّص منه، والتخلّص مِن كلّ مَن قد يمانع أو يقف حجر عثرة في وجه السيناريوهات المرسومة لتصفية القضية الفلسطينية، و"الترانسفير"، و"توسيع إسرائيل"!
يقول المثل العربيّ الشهير: "احذر غضبة الحليم"؛ وحتى يكون الغضب الأردنيّ الذي عبّرت عنه كلمات ونبرة ولغة جسد الملك عبد الله الثاني في الأمم المتحدة غضبة حليم حقّاً، فلا بدّ من تظافر جميع الجهود الوطنيّة من أجل ترجمة ما جاء في الخطاب عمليّاً على أرض الواقع، ولسدّ الطريق أمام "الأمريكيّ" و"الإسرائيليّ" للالتفاف على غضب الأردنيّين ونخوتهم وحميّتهم وأصلهم الذي يردّهم، ومحاولة حرف هذه السجايا الأصيلة وتجييرها (باسم الاعتدال أو الازدهار أو لاعتبارات طائفيّة) بنيّة توريط الأردن في لعب دور أمنيّ في الضفّة الغربيّة بسيف "الضرورة" أو "الأمر الواقع" (ودور ماوزٍ إقليميّاً)، خاصة إذا ما تمّ اللعب على ورقة عدم دستوريّة قرار فكّ الارتباط بين الأردن والضفّة، أو استخدام ورقة الاعتداء على المقدّسات من أجل ابتزاز الأردن واستفزازه!
خطاب الملك عبد الله الثاني خلال الاجتماع الأخير للجمعيّة العامّة للأمم المتحدة (في مقابل خطاب نتنياهو الوقح والصفيق والعنجهيّ والمليء بالأكاذيب) هو فرصة لتغيير النهج وتعديل المسار وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح لا يملك الأردن شعباً ودولةً ونظاماً رفاهيّة تسويفها أو التفريط بها وعدم استغلالها!