وحدة الساحات وسياسة التطنيش!
كمال ميرزا
جو 24 :
من أحقر الغايات الشيطانيّة المضمرة التي تتضمنها الجولة الحالية مما تسمّى مفاوضات الهدنة أو وقف إطلاق النار.. محاولة العدو وأعوانه التحايل على مبدأ "وحده الساحات"، وكسره، وتقويضه، وتفريغه، من مضمونه.
بل ولا يُستبعد أن يحاول العدو وأعوانه وذبابه الإلكترونيّ والأبواق الإعلاميّة التي تسبح في فلكه، وفي مقدمتها وسائل الإعلام العربيّة العميلة والمأجورة، تحويل "وحدة الساحات" إلى مادة للخلاف والفُرقة والتلاوم والتراشق بين أطراف محور الممانعة أنفسهم: أيّهم ألتزم كما ينبغي وأيّهم لم يلتزم؟! وأيّهم ثابث على موقفه حتى آخر رمق وأيّهم سيكون أول "المتخاذلين" أو "المتنصّلين"؟!
طبعاً محاولات كسر مبدأ "وحدة الساحات" لم تتوقّف منذ اليوم الأول لإنطلاق معركة "طوفان الأقصى" المباركة، ولكن الذي يختلف حاليّاً هو الأسلوب أو "التكتيك".
في السابق كانت محاولات كسر مبدأ وحدة الساحات تقوم على تقديم رشاوي مضمرة لكل طرف من أطراف محور الممانعة على شكل "مغريات" و"مكتسبات" و"مكافآت" نظير تخليه عن وحدة الساحات، أو مجرد التقاعس والتراخي فقط وليس التخلي التام عن هذا المبدأ بالضرورة!
ولمّا لم تجدِ هذه الجهود، انصبّ تركيز العدو وأبواقه على تصوير "وحدة الساحات" لا كمبدأ ثابت وجزء لا يتجزّأ من عقيدة "المقاومة" و"الممانعة"، بل كـ "خيار" شخصيّ تتبناه بعض القيادات "المتزمّتة" مثل "نصر الله" و"السنوار"، بحيث تنحلّ وحدة الساحات وتنقضي بمجرد "انقضاء" هذه القيادات والنجاح في "تصفيتها" و"التخلّص" منها!
ولمّا لم تجدِ هذه السياسة أيضاً، نجد العدو وأعوانه يلجؤون حالياً إلى سياسة خبيثة جديدة هي "التطنيش"؛ فجميع السياسيين والمسؤولين حاليّاً، وفي مقدمتهم السياسيين والمسؤولين العرب، يتعاملون وكأنّ وحدة الساحات غير موجودة أساساً، لذا نراهم يتحدثون عن مفاوضات وتفاهمات واتفاقٍ لوقف إطلاق النار في غزّة.. بمعزل عن محادات وقف إطلاق النار في لبنان.. بمعزل عن التعهدات الإيرانيّة بالردّ على العدوان الصهيونيّ الأخير.. بمعزل عن الوضع في اليمن والبحر الأحمر وبحر العرب.. بمعزل عن أداء المقاومة العراقيّة التصاعديّ.. بمعزل عن النار الكامنة تحت الرماد على جبهة الجولان.. وكأنّ كلّ مسألة من هذه المسائل هي مسألة منفصلة عن شقيقاتها، وكأنّ هذا مسار وهذا مسار وهذا مسار ولا علاقة لها ببعضها البعض!
والإعلام العربيّ في مجمله، ينجرف بوعيّ ودون وعيّ، وبدافع الخباثة أو بدافع السذاجة، وراء هذه الخدعة، ويتناقل الأخبار ويردّد التصريحات كما هي على عواهلها وكأنّ مسألة فصل المسارات وعزلها هي مسألة محسومة، ومن نافلة القول، وتحصيل حاصل.. وبحيث يبدو تمسّك كلّ طرف من أطراف محور المقاومة بمبدأ وحدة الساحات هو الوضع "الاستثنائيّ" و"الشاذ" و"المُدان"، خاصةً إذا تخلّى هذا الطرف عن تفاهمات معيّنة ومكتسبات ممكنة في مساره انتصاراً لبقية المسارات ودعماً لها.
ويتضح هذا الابتزاز الرخيص أكثر ما يتضح في الحالة اللبنانيّة (والتي هي حاليّاً الجبهة الأكثر إرهاقاً واستنزافاً للعدو الصهيونيّ)، فإمّا أن يوافق "حزب الله" على فصل الجبهات وإبرام اتفاق منفصل، وإمّا "الأرض المحروقة" و"الفتنة" و"الحرب الأهليّة"!
المفارقة الغريبة أنّ الأنظمة العربيّة هي أكثر من يكره "وحدة الساحات" حدّ الحقد، أكثر حتى من العدو الصهيونيّ، لذا نرى هذه الأنظمة منكبّة كلّ هذا الانكباب على لعب دور "السمسار" الذي يجتهد في اقتراح الصيغ و"الحلول" والتخريجات للتحايل على وحدة الساحات وكسرها!
فصحيح أنّ وحدة الساحات بالنسبة للعدو الصهيونيّ تعني له استنزافه، وإرغامه على الاشتباك والقتال على أكثر من جبهة، ومنعه من تركيز جهوده وموارده وتحقيق أهدافه القصوى على كلّ جبهة منفردة .. ولكن بالنسبة للأنظمة العربية فإنّ وحدة الساحات تعني لها أكثر من ذلك بكثير!
فمن ناحية "وحدة الساحات" العابرة للحدود والانقسامات تُفقِد الأنظمة العربية شرعيّتها وشرعيّة خطابها "القُطريّ" و"الطائفيّ" الذي تتبناه، وتختبئ وراءه، وتتخذه ذريعة لتبرير تقاعسها وتخاذلها تجاه مخطط الإبادة والتهجير وتصفية القضية الفلسطينيّة.
ومن ناحية ثانية "وحدة الساحات" هي بمثابة إدانة صريحة لتخلّي الأنظمة العربيّة عن فكرة "الوحدة العربيّة"، و"التضامن العربيّ"، و"الدفاع العربيّ المشترك".. ولهاثها المحموم هي والفئات الطفيليّة المتكسّبة التي تحيط نفسها بها من أجل خطب ودّ الأمريكيّ والصهيونيّ، وكسب رضاهما، وربط مصيرها بمصيرهما!
ومن ناحية ثالثة "وحدة الساحات"، كجزء من "عقيدة المقاومة" و"ثقافة المقاومة" ككلّ، هي "عدوى" يمكن أن تنتقل بسهولة إلى المجتمعات والدول العربيّة التي تكتم هذه الأنظمة الوظيفيّة المتغرّبة على أنفاسها، وتجيّرها هي ومواردها وإمكاناتها لصالح "الأقليّة" و"الخارج"، وتسلبها مستقبل أجيالها ومقوّمات سيادتها واستقلاليّتها وصمودها ونهوضها وانبعاثها ووحدتها!