نتنياهو وترامب وغلطة الهامل!
كمال ميرزا
جو 24 :
من الأمثال الشعبيّة الدارجة وواسعة الاستخدام على نطاق واسع: غلطة الشاطر بألف!
هذا المثل تعبير عن مدى الاختلال الأقصى أو المتطرّف الذي يمكن أن يبلغه ميزان العدالة والإنصاف لدى نسق اجتماعيّ معيّن، وكيفية قيام أبناء هذا النسق بتبرير وتسويغ وعقلنة مثل هذا الحيف الاجتماعيّ عبر صياغته وطرحه على شكل مثل أو حكمة تبدو للوهلة الأولى وكأنّها مسلمة، أو دليل نفسها، أو حجّة منتجة لآثارها ولا تحتاج لحُجّة عليها!
كمثال توضيحيّ، فلنفترض أنّ عائلة ما لديها ابنان، الأول مهذّب ومطيع ومتفوّق في دراسته يعوّل عليه الجميع لأنّ يكون أحد العشرة الأوائل في امتحان الثانويّة العامّة، والثاني "سرسري" و"أزعر" و"هامل" رسب في الثانوية العامّة عدّة مرّات حتى غسل الجميع أيديهم منه واستيأسوا من نجاحه.
وفي نهاية السنة، نجح الولد المهذّب محرزاً معدّل 90٪، وحقّق الابن السرسري المفاجأة ونجح هو الآخر محرزاً معدّل 55٪.
نظريّاً لا مجال للمقارنة بين المعدّلين، فمعدل الـ 90٪ الذي حقّقه الابن الأول ما يزال معدلاً مرتفعاً ومتفوقاً قياساً بغيره، ومعدل الـ 55٪ الذي حقّقه الابن الثاني يبقى معدلاً متدنياً و"مش جايب همّه"!
ولكن ما يحدث فعليّاً في الحياة الواقعيّة هو أنّ 90 الابن الشاطر سرعان ما تتحوّل إلى وبال عليه لأنّه فشل في أن يكون من العشرة الأوائل، و55 الابن الهامل سرعان ما تصبح مأثرة تسجّل له ويلقى نظيرها بالغ الحفاوة والإشادة والتقدير!
بكلمات أخرى، الشاطر والمتفوّق هنا يشقى بشطارته وتصبح لعنة مسلّطة عليه، والسرسري والهامل ينعم بهمالته وتحلّ عليه بركاتها!
المشكلة أنّ مثل هذه المفاضلة الظالمة لا تقتصر على واقع معيشتنا اليوميّة وعلاقاتنا الشخصيّة، بل تتعدّاهما لتشمل أيضاً تعاطينا مع شؤون السياسة والصالح العام.
على سبيل المثال، غالبيتنا نتعامل بصورة صريحة أو مضمرة مع المقاومة ومجمل محور الممانعة وجبهات الإسناد بمنطق "الشاطر" الذي نتربّص به، ونقعد له "على ركبة ونص"، ونتصيّد له أي هفوة أو زلّة أو إخفاقة كي نجلده بها ونحسبها عليه بألف..
وفي المقابل نتعامل مع منظومة الدول والمؤسسات الأمميّة المتخاذلة والمتواطئة بمنطق "الهامل" الذي رُفع عنه القلم والعتب، والذي يكفينا أن يصدر عنه تصريح ناريّ لا يتعدّى حدود الخطابة والإنشاء، أو أن يرسل مساعدات إنسانيّة لا تسمن ولا تغني من جوع، حتى نعتبر ذلك قمة الفضل والمأثرة والفتح المبين الذي يستوجب كلّ التزمير والتطبيل والتهليل!
وما يسري على الأنظمة يسري على الأشخاص، فها هو الكلب المسعور "نتنياهو" قد نجح بتكريس صورته باعتباره العنجهيّ المتغطّرس المتكبّر الذي لا يرى أحداً أمامه، ولا يطيع أحداً غير نفسه، ولا "يمون" عليه أحد.. بحيث أصبحت هذه الصورة ذريعة لتبرير جرائمه، وحجّة لإحجام الآخرين عن محاولة الوقوف في وجهه، ولجمه، وردعه، وإيقافه عند حدّه، ومعاقبته على ما اقترفته ويقترفه هو وعصابة حربه!
نفس الكلام ينطبق على "ترامب"، والذي نجح خلال دورته الرئاسية السابقة في أن يكرّس صورته كبلطجي سياسة، وهي الصورة التي قام باستثمارها بالفعل في حملته الانتخابيّة الحاليّة التي أفضت إلى فوزه، وبما يمنحه سلفاً صكّ غفران إزاء أي سفالات أو موبقات سيقترفها بعد مباشرته رسميّاً سلطاته الدستوريّة من قبيل "ترامب" هو "ترامب"، وليس بعد الكفر ذنب!
منطق العدالة والإنصاف يقتضي أنّ الغلطة بغلطة سواء أصدرت عن "شاطر" أو "هامل". وبالعكس؛ إذا كان هناك هامش لدى المجتمع للتسامح والتغاضي، فمن باب أولى أن تشفع شطارة الشاطر للشاطر لا أن تشفع همالة الهامل للهامل!
ولكن لماذا نصرّ كمجتمعات على هذا القياس الشاذ؟ وجلد الشاطر وإعفاء الهامل؟ ونحسب غلطة الشاطر بألف ولا نحسب غلطة الهامل بألف مثلها على الأقل؟ لأنّ هذه إحدى الآليات الدفاعيّة التي نلجأ إليها بوعي أو دون وعي لنفاق أنفسنا، ومداراة حقيقة أنّنا لا نريد تحمّل عبء ومشقّة ومسؤوليّة أن يكون المرء "شاطراً" في زمن السرسرة والبلطجة والهمالة، أو لمداراة حقيقة أنّنا في دواخلنا سرسرية وبلطجية وهمل اعترفنا بذلك أم لم نعترف!
وهذا سبب آخر من أسباب الحقد على "طوفان الأقصى" وحاضنته الشعبية والنموذج الذي يمثّله المجتمع الغزّاوي، بكونه مجتمعاً يمثل على المستوى الجمعيّ والفرديّ النقيض الأخلاقيّ والمعرفيّ والوجوديّ لجميع مظاهر التردي والتناقض والشذوذ واختلال الموازين والمعايير أعلاه!