تطبيع الخيانة والتطبيع كخيانة!
كمال ميرزا
جو 24 :
التطبيع بمفهومه البسيط والمباشر يعني إرساء وتكريس وترسيخ موقف أو سلوك ما باعتباره أمراً "طبيعيّاً"، واعتياديّاً، ومفروغاً منه، ومن نافلة القول، وتحصيل حاصل!
والتطبيع بهذا المعنى هو مفهوم "نفسيّ" في المقام الأول وليس مفهوماً "عقليّاً"؛ بمعنى أنّ الغالبيّة يتصوّرون أنّ التطبيع يعني التلاعب بعقول الناس وتغيير أفكارهم وقناعاتهم تجاه مواقف وسلوكيّات معيّنة، في حين أنّ التطبيع يستهدف بشكل أساسيّ ضمائر الناس ووجدانهم و"قلوبهم" وليس عقولهم.
فأي فكرة أو قناعة عقليّة، ومن جملتها القناعات الدينيّة، مهما كانت راسخة أو متينة فلا خير فيها، ولا يُعوّل عليها، و"هي وقلّتها واحد".. ما لم تتحوّل إلى "منبّه" يستثير مشاعر الشخص وانفعالاته بما يكفي لأن تُترجم هذه الاستثارة على شكل مواقف وسلوكيّات عمليّة ملموسة على أرض الواقع وعبر تفاصيل العيش اليوميّة.
والتطبيع يهدف في المقام الأول إلى نزع فتيل أو صاعق الناس، وتبليد مشاعرهم وانفعالاتهم (من بلادة)، بحيث لا تعود تستثيرهم وتستفزّهم أي مواقف وسلوكيات تصدر عن غيرهم، أو يكونون هم أنفسهم جزءاً منها، حتى وإن كانوا على المستوى العقلي وعلى مستوى الوعي ما يزالون مقتنعين بشكل يقينيّ وصادق أنّ هذه المواقف والسلوكيّات تندرج تحت باب التخاذل أو التواطؤ أو الخيانة!
أي أنّ ما ينقص الناس ليس معرفة الحق من الباطل والصواب من الخطأ والحلال من الحرام، بل ينقصهم أن ينفعلوا بهذا الحق والصواب والحلال بما يكفي لتحويل هذا الانفعال وهذه الاستثارة إلى واقع ووقائع ومواقف وسلوك.
من هنا يأتي قولنا على سبيل المثال أنّ فلاناً يحبّ في الله ويكره في الله، أي أنّ إيمانه ليس مجرد فكرة وقناعة، بل وأيضاً "منبه" و"مستثير". وكذلك قولنا أنّ فلاناً قلبه حجر، أو ضميره ميّت، أو بليد، أو تنبل، أو "مكلّح". أو قولنا أنّ فلاناً قد فقد ماء وجهه، بمعنى هو ما زال يدرك تماماً أنّ ما يقوم به (أو ما يمتنع عن القيام به) هو حرام أو عيب أو غير لائق، ومع هذا فإنّ إدراكه لا يمنعه ولا يثنيه عن مواصلة بلادته وتنبلته وكلاحته!
ما تقدّم يفسر اللوثة الأخيرة التي تجتاح وسائل الإعلام الغربيّة من أجل تسريب وفضح مواقف وسلوكيّات الأنظمة العربية المعادية والمناوئة للمقاومة بكافة فصائلها وساحاتها، والداعمة للكيان الصهيونيّ والمنصاعة للسيد الأمريكيّ بالمعنى الماديّ العمليّ المباشر لكلمتي دعم وانصياع!
ففي المراحل الأولى من معركة "طوفان الأقصى" كان الهدف من مثل هذه التسريبات تخفيف الضغط على الكيان الصهيونيّ وجبهته الداخليّة، باعتبار أنّ أي لغط أو فوضى أو قلاقل أو انقسامات قد تحدث داخل أي بلد عربيّ ستصبّ مباشرة في مصلحة الكيان، وستساهم في تغطية جرائمه وفشله في آن واحد وتمويههما والتهوين منهما.
أمّا الجولة الحاليّة من التسريبات فهدفها تطبيع تخاذل وتواطؤ الأنظمة العربيّة، بما يتيح لها مواصلة هذا التخاذل والتواطؤ، وبما يتيح لها الانتقال بتخاذلها وتواطؤها إلى المستوى التالي والخطوات التالية!
فعلى سبيل المثال عندما يتم تسريب خبر مفاده أنّ نظاماً عربيّاً ما قد قام بتسهيل توريد السلاح ومروره وتوصيله إلى الكيان الصهيونيّ لاستخدامه ضدّ الشعب الفلسطينيّ، فإنّ هذا الخبر سيستثير حنق الناس وسخطهم بشكل آنيّ ولحظيّ ومؤقّت، لكن متى ما مرّ هذا التصرّف دون عواقب حقيقية فإنّ هذا التصرّف سيكون قد "طُبّع"، بمعنى أنّه لن يستثير لدى الناس نفس الانفعالات وردود الأفعال في حال تكراره مرةً أخرى، حتى وإن ظلّ الناس يعتبرونه على المستوى العقليّ وعلى مستوى الوعي تصرفاً مُداناً ومرفوضاً، وهو ما يتيح ويسهّل على النظام المعنيّ مواصلة هذا التصرّف في المستقبل، بل والإقدام على تصرّفات جديدة أكثر فداحةً ليصار إلى تطبيعها هي الأخرى بنفس الطريقة.. وهكذا دواليك!
هذا الكلام يمكن تطبيقه على مواقف وسلوك كل نظام عربيّ وإسلاميّ منفرداً، أو يمكن تطبيقه على المواقف والسلوكيّات الجمعيّة لهذه الأنظمة على غرار ما تُسمّى قمة الرياض المشتركة بنسختيها الأولى والحاليّة!
أمّا بالنسبة لسؤال: لماذا الآن؟! فلأنّ الكيان الصهيونيّ بعد أكثر من (400) يوماً من جرائم الحرب المتواصلة والإبادة والتهجير المُمنهجَين قد بلغ الحدود القصوى لما يمكن أن يحقّقه عسكريّاً في "الميدان" من خلال الإرهاب والترويع والتدمير والتجويع والتعطيش، بل إنّ منحنى الميدان ومؤشّراته قد شرعا يسيران في عكس اتجاه مصلحته ومصلحة المخططات الصهيو - أمريكيّة لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً باسم "صفقة القرن" و"السلام الاقتصاديّ".
ما هو الحلّ إذن؟
أن يُهرع مريدو الكيان الصهيونيّ وحلفاؤه وشركاؤه من الأنظمة العربية والإسلامية من أجل إنقاذ حبيبتهم "إسرائيل"، وإرضاء راعيتها وراعيتهم وصانعة "شرعيّتهم" وصمام أمان بقائهم واستمرارهم واستمرار كراسيّهم وعروشهم ومصالحهم و"بزنسهم" وأرصدتهم أمريكا، وانتشال الكيان الصهيونيّ من ورطته، ومنحه بالدبلوماسية والسياسة ما لم يستطع تحقيقه بالقتال والحرب!
من هنا تأتي جرأة الأنظمة العربية المتزايدة ووقاحتها المتصاعدة في التعبير صراحةً وجهاراً نهاراً عن مواقفها المناهضة للمقاومة وكلّ ما هو مقاوِم، وانحيازها التام للكيان الصهيونيّ وكلّ ما هو متصهين، وقمع وشيطنة وتجريم أي أصوات داخل شعوبها ومجتمعاتها ترفض التطبيع بمفهومه الواسع، أي ترفض التعامل مع تخاذل وتواطؤ الأنظمة العربية باعتباره أمرا طبيعيّاً وعاديّاً، حتى وإن تمّ تسويق هذا التخاذل والتواطؤ باسم العقلانيّة، أو باسم المصلحة الوطنيّة، أو باسم الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيّات والشرعيّة الدوليّة، أو باسم الانتماء القوميّ والانحياز الطائفيّ، أو باسم وعود الرخاء والازدهار الكاذبة.. وترفض أيضاً ابتزاز المقاومة ومحاولة لي ذراعها باسم الإغاثة والمساعدات الإنسانيّة وإعادة الإعمار.
كما قلنا فإنّ التطبيع هو "آلية نفسيّة" في المقام الأول، والتعامل مع مثل هذه الآلية النفسية يكون من خلال محاولة عكس اتجاهها وإلغاء أثرها بشكل إراديّ وواعٍ ومقصود حتى لو استدعى الأمر تصنّع الرفض والغضب، وإجبار النفس على الرفض والغضب، وتذكير النفس بضرورة الرفض والغضب.. وذلك على طريقة "العلم بالتعلّم والحلم بالتحلّم والصبر بالتصبّر"، وعلى طريقة "والنفس راغبة إذا رغّبتها.."، وعلى طريقة "يا أيّها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون"، وعلى طريقة "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى".