الاستبداد السلطوي في مواجهة الإستبداد الديني نموذجي العداء للديمقراطية

رانيا عثمان النمر
جو 24 :
لم يكن المشهد البائس الأخير تحت قبة مجلس النواب الأردني، في جلسته المنعقدة على خلفية قرار اعتبار جماعة الإخوان المسلمين "منحلة ومحظورة”، مجرد فوضى عابرة أو أزمة سياسية طارئة، بل كان تجليًا فاضحًا لصدام تاريخي بين شكلين من الاستبداد: استبداد سلطوي يحتمي بقوة الدولة، واستبداد ديني يتدثر بعباءة الدين.
كلا الاستبدادين يلتقيان كصنوانين قويين مركزهما تذليل الأنسان وإخضاعه والسيطرة عليه عبر التخويف والتجهيل وإلغاء الإرادة الحرة. فالعوام هنا ليسوا مجرد جمهور، بل مستعبدين يقاتلون بعضهم بعضًا كخزان بشري جاهز للتعبئة في معارك لا تخدم إلا مزيدًا من تكريس العبودية.
وكما قال عبد الرحمن الكواكبي قبل أكثر من قرن في كتابه الخالد طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، فإن عبيد الاستبداد الديني والسياسي سواء، يخضعون لحكم لا يربطهم به عقد قانوني عادل، بل عقد إذعان قوامه الجهل والخوف.
هذا المشهد الأردني، الذي انفجرت فوضاه داخل البرلمان، لم يكن مواجهة طبيعية بين نهج معارضة ونهج موالاة، بل صراعًا بين مشروعين كلاهما معادٍ للديمقراطية:
من جهة أولى، تيار إسلامي يمتهن الديمقراطية تكتيكًا لا عقيدة، يستخدم أدواتها للوصول إلى السلطة ثم يحتقرها ويقوضها.
ومن جهة ثانية، تيار سلطوي اختصر الوطنية بمقاييس الولاء الأعمى على شكل نفاق وتزلف حتى بلغ به الأمر الدعوة إلى تجريد بعض المواطنين من جنسيتهم كعقوبة سياسية.
لم تكن الأزمة مجرد خطأ عابر، بل تجسيدًا لانهيار المنظومة السياسية الأردنية في اختبارها الأصعب.
فقد كشفت الجلسة البرلمانية، وما تبعها من تحشيد على وسائل التواصل الاجتماعي، عن عطبين خطيرين:
أولا: عمودية تغييب العقل، حيث برز المستبدون من الطرفين (الديني والسلطوي)، مدعومين بنخب سياسية ومثقفين غارقين في التبعية والرداءة.
ثانيا: أفقية الجهالة والغباوة، التي انتشرت بين عوام الناس عبر حملات التجييش والشحن العاطفي الخالي من أي مضمون عقلاني.
خطورة ما جرى لا تكمن فقط في فشل الجلسة أو فضيحة الأداء السياسي، بل في تعميق ثقافة الاستقطاب، وتقويض فرص بناء دولة مدنية حديثة تقوم على المواطنة المتساوية.
لقد تحولت المعركة إلى مواجهة ضد الديمقراطية نفسها:
•تيار ديني لا يعترف أصلًا بالمواطنة القائمة على الحقوق الفردية.
•وتيار سلطوي يستخدم خطاب "الولاء” سلاحًا للإقصاء، في انقلاب صريح على مبدأ أن جميع الأردنيين سواء أمام القانون.
وفي ظل هذا المشهد القاتم، بات واضحًا أن الحل لا يكمن في مزيد من الشعارات أو المبادرات التجميلية، بل بثلاثة مسارات جذرية مترابطة:
•ثورة ثقافية تُعيد الاعتبار للعقل النقدي، وتقتلع الجهل الممنهج الذي يغذي الاستبدادين معًا.
•نهضة تعليمية تبني مواطنًا واعيًا قادرًا على فهم حقوقه وواجباته في دولة مدنية حديثة.
•حسم سياسي واضح: إعلان هوية الدولة دون مواربة أو خوف من ضغط المحافظين أو التيارات الدينية، باتجاه دولة مدنية أعمدتها العدالة والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان.
التاريخ يعلمنا أن الأمم التي تنتصر للعقل وللحرية، هي التي تكتب مستقبلها بأيديها، لا تلك التي تترك مصيرها رهينة بيد سلطان الدين أو سلطان السياسة.
وفي هذا المنعطف، يحتاج الأردن إلى قرار حاسم ووحيد: وهو السير بثبات نحو الدولة المدنية العصرية القائمة على المؤسسات وتحت مظلة الدستور..