بؤس الانتصار والحصاد المر
د. حسن البراري
جو 24 :
عبثا يحاول المراقب التمييز بين الغث والسمين وهو يستمع لسيل من الاراء ويقرأ شتى أنواع المقالات والتقارير العربية بخصوص ما تم التوصل إليه من صفقات واتفاقات في الاقليم سيكون لها مآلات كثيرة وأثار استراتيجية ربما تعيد تشكيل ديناميكيات الحرب والسلم في المنطقة بشكل عام.
وبعيدا عن فحوى وتفاصيل هذه الاتفاقات وتطبيل "كبار” الكتاب لهذا الفريق أو ذاك استوقفتني كثيرا الطريقة التي تعرّف بها الأنظمة غير الديمقراطية-(حتى وإن كان رئيسها منتخبا) الانتصار والهزيمة. هذه الانظمة في جلها ترى بأن بقاءها السياسي هو مؤشر "انتصار” الأمة، ولا ضير إذن إن رهنت هذه الأنظمة مقدرات دولها أو اتبعت سياسة تفقر شعوبها ما دامت هذه الأنظمة قادرة على الصمود في وجه "مخططات” غربية تستهدفها.
فتحت عناوين فضفاضة غير قابلة للقياس مثل "المقاومة” أو "الممانعة” تبرر هذه الأنظمة حرمان شعوبها من متطلبات التنمية والتطور في سبيل امتلاك اسباب المنعة والقوة، ففي سوريا مثلا تم بناء ترسانة كيماوية ضخمة لردع إسرائيل، وهذه الترسانة لم تستخدم قط ضد إسرائيل في كل المواجهات العسكرية التي خسرتها سوريا مع أن النظام لم يتردد في استخدامها ضد الشعب السوري لرفع الكلفة على الثوار وتسجيل انتصار يضمن لهذا النظام البقاء. وبتصريح واحد فقط من الرئيس أوباما مع تحريك جزء من الاسطول الاميركي السادس استوعب الاسد بأن بقاءه سيكون مهددا لذلك تخلى عن سلاح "الردع” مقابل البقاء. وازالة الترسانة الكيماوية السورية يخدم اسرائيل ومع ذلك يصر النظام السوري ومن يهلل ويطبل له بأنه انتصر على الولايات المتحدة! إذا كان هذا هو الانتصار، فكيف تكون إذن الهزيمة؟!
نظام الملالي في ايران أفقر الشعب الإيراني بانفاقه ما يقارب من ٢٥٠ مليار دولار على المشروع النووي وتكبدت إيران عشرات المليارات خسائر نتيجة العقوبات التي فرضتها الدول الغربية، وعندما شعر والي الفقيه أن نظام الحكم بات مهددا من الداخل بسبب ايغال نظامه في افقار الشعب وتراجع الاقتصاد الايراني واصرار الغرب على حرمانه من الخيار النووي غيّر من موقفه وقدّم قيمة البقاء السياسي على سواها من "اسباب المنعة،” وأخر ما تفتق به العقل الحاكم في إيران هو أن ايران تحتاج إلى "الليونة البطولية” وهذا يستدعي الاذعان لشروط الغرب مقابل رفع الحصار. وربما يحق للشعب الإيراني أن يتساءل عن جدوى انفاق المليارات والعيش في حصار قاتل من اجل مشروع يتم التنازل عنه مقابل بقاء النظام!
وكما يقال، كلنا في الهم شرق! فما سبق لا يعني أن الانظمة العربية التي وقفت في الخندق المقابل من سوريا وإيران بأنها افضل حالا! فهي أنظمة غير ديمقراطية أيضا وترى في بقائها القيمة الاساسية العليا أو المصلحة الوطنية العليا. وقد بلغت السذاجة والتذاكي في الوقت ذاته في هذه الدول حد وصف قيام حاكم او مسؤول بالتوقف عند حادث سيارة لاسعاف مواطن بأنه انجاز تهلل له البلد ويكتب فيه كتاب السلطان شتى انواع المديح مذكرين الشعب بحظهم الكبير بأن منّ الله عليهم بمسؤول ملهم من هذا الصنف "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه” وربما للشعب السعودي مثلا الحق في التساؤل اين ذهبت المليارات ولماذا تخفق عاصمة الدولة هناك في التعامل مع موجة شتاء واحدة وعابرة!
لم أكتب هنا اليوم للسجال أو للنيل من هذا الكاتب الممتثل او ذاك الغارق في معارضته الفارغة، ولكن للتذكير بأنه ثمة حقيقة (وصل إليها غيرنا منذ زمن بعيد ) ماثلة للعيان تفيد أن الانظمة الشمولية والقمعية تخسر مواجهاتها مع الانظمة الديمقراطية. وأنا أقرأ ما يكتب حاليا من تحليلات ساذجة لمن ينتحلون صفة "محلل استراتيجي" وهم لا يعرفون شيئا سوى تزيين الواقع وتبرير الفشل وتقديمه وكأنه انتصار تذكرت ما قاله الممثل انطونيو باندريس في فيلم "يوم الصقر" وفيه يمثل دور أمير عربي في العشرينات من القرن الماضي يتفاجأ باكتشاف النفط ويريد ان يصبح أكثر ثراءا من ملك بريطانيا، ويكتشف هذا الأمير أن هناك فرق مئة عام بين البيئتين.
ستستمر هذه الانظمة في ايغالها بالنيل من شعوبها لأنها تعاني ممن وصفه صموئيل هنتنغتون ب "مأزق الملك،" فهي تعرف أنها لن تبقى هكذا من دون تمكين للشعب لكنها تدرك أيضا ان تمكين الشعب سيفضي الى زوالها في نهاية الامر، وإلى ان تزول هذه الانظمة التي تعرف النصر ببقائها ستبقى الشعوب تعاني ولن تجني هذه الانظمة من حصادها الا الشوك.