عدسة تحت الركام
سلام العكور
جو 24 :
ركب كاميرته بعناية ، وجهها نحو البناية السكنية التي سقطت للتو بفعل القذائف ، ثم ابتعد حتى يبدو المشهد كاملا .
الصحفي بصوت خائف يحاول الثبات بعد هول ما شهد : "كما ترون، وتتابعون لقد سقطت قديفة صهيونية على هذه البناية السكنية في وضح النهار، وها قد هرع الناس لمساعدة العالقين تحت انقاض بيوتهم ".
حاول ان يغير زاوية التصوير و يوسع زاوية الرؤية ، اقترب اكثر ، كان يريد تصوير الجريمة كاملة . وإذ بقذيفة أخرى تسقط فوقه . لم تترك منه شيئأ ، تناثر جسده وضاع صوته .
اما الشاهد الوحيد –الكاميرا- فقد كان مصيرها التشظي الكامل ، تماما كما تحطمت الحقيقة دون ان يتمكن احد من نقلها ، وكأن المجرم وبعد ان يقترف جريمته يحاول ان يتخلص من أي دليل يدينه ، فيتخلص من الصحفي وادواته لا فرق .
انه ثمن نقل الحقيقة ، فكل صحفي فلسطيني هناك على ارض غزة الطاهرة يحمل روحه على كفه ومعداته فوق ظهره ، ويسير لكشف الحقيقة كاملة بالصوت والصورة .
هو الثمن الذي يدفعه كل صحفي يؤمن بأن دوره لا يقل أهمية عن اولئك الذين يحملون البندقية دفاعا عن الارض والعرض ، هو مستعد تماما ليضحي بنفسه وهو يعرف ان احتمالات ذلك كبيرة جدا ، وهي ذاتها المشاعر التي تخالج اولئك الابطال الذين يخرجون من ثكناتهم وعقدهم القتالية لمواجهة اكثر جيوش العالم انحطاطا وفسادا ومرضا ووحشية .
ان الخروج لرصد الخبر او توثيق الصورة في بيئة لا ترحم يشكل تحديا استثنائيا ، فهناك تحت القصف العشوائي يجد حامل الرسالة نفسه في مواجهة مع ضميره " هل انزل الميدان وانقل الصورة أم ابقى حيث انا ؟" . وبدون ان يترك نفسه نهبا للشك والريبة ، يخرج مهرولا حاملا كاميرته ليكون عنوانا من عناوين الحقيقة ومصدرا اوليا موثوقا للخبر والصورة ..
هو ليس مراقبا محايدا يغطي حدثا ، انه جزء مهم من كل ذلك، انه جزء من الألم والخسارة ،فغالبا ما يجد نفسه يغطي مآسي تخصه شخصيا ، او قد يتعرض الى ضغوطات معينة او الى التهديد في حال نشر اخبارا غير مرغوب بنشرها .
كثير من الصحفيين يستهدفون بشكل مباشر بالرغم من ارتدائهم لباسهم الخاص اثناء تأدية الواجب . ورغم وضوح الجريمة لا تحظى قضاياهم في اغلب الأحيان بالاهتمام ويفلت المجرمون من العقاب . ومع ذلك كله لا يتوانى الصحفيون عن القيام بواجبهم ويهرعون الى قلب الحدث فيصبحون جزءا حيا من تفاصيله .
في الميدان لا يميز القاتل بين ضحاياه ، لا فرق بين مسلح ومدني ، رجل وامرأة ، طفل او شيخ ، صحفي او مسعف -كلهم في مرماه - ذنبهم انهم لا يزالون على قيد الامل .
ومنذ العام 2007 يعيش أهل غزة تحت حصار صهيوني خانق ، يخنق كل اشكال الحياة ، ورغم ذلك فان أهلها رغم صعوبة الظروف يتمسكون بالحياة ، ولديهم قدرة رهيبة على التأقلم والتكيف مع اصعب الظروف ، وتحويل الألم الى أمل .
اكثر من ١٧٠ شهيدا من الصحفيين والإعلاميين الفلسطيين ارتقوا خلال هذا العام وحده ، جميعهم لبوا نداء المهنة رغم رائحة الموت ، لم يردعهم خوف او حصار ، تحملوا الجوع والوجع لنقل الأمانة .
هنا غزة .. هنا فقط يموت صحفي فيولد عشرة يحملون امانة الكلمة ، هنا فقط يواجه الصحفي والطبيب والممرض والمسعف بصدره العاري ومعدته الخاوية ابشع حرب عرفتها البشرية، انها غزة حيث تكون القيمة راسخة بكامل عنفوانها وتجلياتها ، تلك القيمة التي مر البعض من اطرافها ، ولم يعرف عنها البقية شيئا يذكر ..








