الإدارة الرشيدة… الفارق الحقيقي بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة
عند تصنيف الدول الى متقدمة او متخلفة(Developed and Underdeveloped) ، غالبًا ما يُسلط الضوء على الفوارق الاقتصادية أو تفاوت الثروات أو غياب الموارد الطبيعية في بعض الدول دون غيرها. لكن هذه الفروق السطحية تُخفي الحقيقة الأعمق والأكثر تأثيرًا: وهو أن الفارق الجوهري لا يكمن في وفرة الموارد أو ندرتها، بل في طبيعة الإدارة وصلاح الحوكمة ومدى التزام الدولة بخدمة المواطن لا الطبقة الحاكمة او المتنفذة.
فالدول المتقدمة لم تولد متقدمة، ولم تُمنح ثروات خارقة تفوق سواها، بل بنت تقدمها بشكل رئيس على أسس الحوكمة الرشيدة (GoodGovernance)، حيث تكون الإدارة والقيادة في خدمة الشعب، وتُسخّر السلطات والثروات والإمكانيات المتاحة لتحقيق المصلحة العامة، لا خدمة فئة ضيقة من المتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال، وتُحاسَب القيادات بناء على إنجازاتها المبنية على معايير شفافة قابلة للقياس، وتُمنح الأولوية للتعليم والبحث العلمي والصحة وتحسين نوعية حياة المواطن والمحافظة على كرامته والدفاع عن الدولة.
في المقابل، تعاني الدول المتخلفة – وفي مقدمتها العديد من الدول العربية – من سوء الإدارة وغياب الرؤية، وتغليب المصالح الشخصية والفئوية على المصلحة الوطنية. الحكومات والمؤسسات العامة فيهذه الدول تُصمّم لتكريس السلطة في يد الحكام ومن حولهم، ولا توزع الثروة بعدالة وإنصاف، وإنما يدار الإقتصاد لخدمة المتنفذين واصحاب رؤوس الأموال وأحيانا لخدمة الفاسدين، اولتسديد ديون الدولة والفوائد المتراكمة بسبب سوء الإدارة والقرارات غير الرشيدة. وهنا لا يمكننا الحديث عن تقدم حقيقي، حتى لو توافرت الموارد، لأن الثروة يتم استنزافها وتبديدها وتتحول إلى لعنة في غياب الإدارة الرشيدة. ولن اعطي امثلة لهذه الدول حتى لا أتهم بتعكير العلاقات مع الدول الشقيقة او الصديقة ، فالقارىء قادرعلى معرفتها.
إن الدولة – أي دولة – لا تحتاج إلى معجزة لتتقدم، بل تحتاج إلى ثلاث مقومات لا رابع لها: أرض وشعب وإدارة رشيدة. الأرض يمكن أن تكون فقيرة أو غنية، صغيرة أو واسعة، لكنها موجودة. الشعب قد يكون قليلاً أو كثيرًا، لكنه يملك الطاقات الكامنة التي اودعها الله في الإنسان. أما العنصر الحاسم فهو الإدارة الرشيدة، فهي التي تحوّل الشعب إلى قوة منتجة، وتُدير موارد الأرض بحكمة وتستثمرها لصالح التنمية المستدامة للجميع.
فالمال والعلم والتكنولوجيا والنظم القانونية المتطورة ليست إلا ثمارًا يانعة لشجرة الإدارة السليمة. لا يمكن أن تنمو هذه الثمار في دولةتسودها الفوضى، أو يُهيمِن عليها الفساد، أو يُقصى فيها الأكفاء ويُكافأ الموالون والمتسلقون، والنتيجة الحتمية لهذه الدولة الفقروالبطالة والمديونية التي تمنعها من الخروج من عنق الزجاجة اوغرفة الإنعاش وتبقيها تابعة اقتصاديا وسياسيا لبعض الدول المتقدمةتدور في فلكها وتسبح بحمدها!ولعلّ أصدق تعبير عن هذا المعنى العميق، ما ورد في كتاب الله العزيز، في سورة الإسراء، الآية 16:"وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا". فالهلاك لا يبدأ من فقر الدول، بل من فساد المترفين والمتنفذين ومن بيدهم السلطة وتجاوزهم الحدود واستغلالهم لمواقعهم لتحقيق مصالحهم الخاصة.
إن طريق الخلاص للدول المتخلفة الفقيرة يبدأ من إصلاح الإدارة ونشر الشفافية ومحاربة الفساد وإرساء مبدأ أن الحاكم والمسؤول موظف عند الشعب، لا العكس. إنها معركة الوعي أولاً ومعركة بناء الدولة من الداخل، من الرأس حتى القاعدة. فحين تكون الإدارة والقيادة ممثلة بالحكومات ومؤسسات الدولة في خدمة الشعبوليست سيدة عليه ، تصبح الموارد ايضا في خدمة الشعب وأداة لنهضتة، لا لعنة عليه.
وفي الختام، تحقيق الحاكمية الرشيدة والإدارة الفعالة، بمبادئها من عدل وشفافية ومحاسبة ومشاركة وإنجاز وكفاءة، هو التحدي الأكبر والأساسي. فهو ليس ترفًا فكريًا، بل هو شرط لبقاء الدولة وازدهارها، والضمانة الوحيدة لتحويل مواردها – مهما قلّت – إلى رصيد حقيقي لشعبها ورافعة لمنعتها وتقدمها.








