2025-11-17 - الإثنين
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

التحول الجذري في سوق العمل العالمي

د. عدلي قندح
جو 24 :

  يشهد العالم في العقدين الأخيرين تحوّلاً جذرياً في سوق العمل يفوق في سرعته وعمقه كل ما عرفته البشرية عبر تاريخها. فالموجة التكنولوجية الجديدة، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي واقتصاد البيانات والعمل عن بُعد، أعادت صياغة العلاقة بين الإنسان والإنتاج، بين رأس المال والعمل، وبين الدولة والسوق. هذا التحول ليس طارئاً أو عارضاً، بل هو نتاج "علل كبرى" تؤسس لمرحلة جديدة من التاريخ الاقتصادي، وتضع نظريات سوق العمل أمام اختبار واقعي صارم.

من منظور المدارس الكلاسيكية، التي رأت في العمل ورأس المال محركين أساسيين للإنتاج، يظهر اليوم عامل ثالث لا يمكن تجاهله: الذكاء الاصطناعي. فكما استبدلت الثورة الصناعية الأولى القوة العضلية بالآلة، تستبدل الثورة الرقمية الخوارزميات بجزء من القدرات العقلية البشرية، لتولد "اقتصاد الإدراك"، حيث لم تعد المعرفة الثابتة كافية، بل القدرة على التكيف والتعلم المستمر هي جوهر الميزة التنافسية.

أما المدرسة النيوكلاسيكية، التي افترضت مرونة أسواق العمل وقدرتها التلقائية على التوازن بين العرض والطلب، فتواجه اليوم واقع "البطالة الهيكلية"، حيث تتواجد وظائف شاغرة إلى جانب عاطلين عن العمل، ليس بسبب ندرة الفرص بل بسبب فجوة المهارات. هذه الفجوة تفضح محدودية الافتراض التقليدي عن كفاءة السوق، وتستدعي تدخلات أكثر ديناميكية.

هنا تبرز المدرسة الكينزية بكل قوتها، إذ تصبح دعوتها للتدخل الحكومي الموجَّه أكثر راهنية: الاستثمار في التعليم التحويلي، وبرامج إعادة التأهيل، والبنية التحتية الرقمية، وشبكات الأمان الاجتماعي خلال فترات الانتقال المهني، كلها أدوات لا غنى عنها لتفادي الانكماش والاضطراب الاجتماعي. وفي المقابل، تُلقي المدرسة المؤسسية الضوء على أن نجاح التكيف مع التحول التكنولوجي لا يعتمد فقط على قوى السوق، بل على قوة المؤسسات وقدرتها على صياغة سياسات مرنة ومبدعة.

من جهة أخرى، تعود نظرية رأس المال البشري إلى الواجهة، مؤكدة أن الاستثمار الحقيقي لم يعد في الآلة أو المبنى، بل في الإنسان: في مهاراته الرقمية، قدرته على التفكير النقدي، واستعداده للتعلم مدى الحياة. العوائد الاقتصادية اليوم تتحدد أكثر من أي وقت مضى بالقدرة على بناء رأس مال بشري مرن ومبدع.

لكن الوجه الآخر للتحول يذكّرنا أيضاً بما طرحه ماركس عن تركّز وسائل الإنتاج في يد قلة. فالبيانات اليوم هي "نفط العصر"، ومن يسيطر عليها يمتلك القوة الاقتصادية والسياسية. هنا تنشأ مخاطر تعميق التفاوت الاجتماعي بين من يملكون التكنولوجيا ومن يفتقدونها. وفي المقابل، ترى مدرسة الاقتصاد الرقمي أن المنصات والذكاء الاصطناعي تفتح فرصاً جديدة لإعادة توزيع الثروة على نطاق عالمي غير مسبوق، إذا ما أُحسن استغلالها.

هذه الجدليات النظرية تتجسد عملياً في الواقع: الجامعات والمؤسسات التعليمية مطالبة بانتقال جذري من التلقين إلى التعليم التفاعلي الذي يبني التفكير النقدي والمهارات الناعمة. البنوك التقليدية تواجه تحدياً وجودياً أمام حلول التكنولوجيا المالية. الصناعات تتجه نحو الأتمتة الذكية والمصانع المتصلة. والقطاع الصحي ينتقل من نموذج العلاج التفاعلي إلى الوقاية الاستباقية المدعومة بالبيانات والذكاء الاصطناعي.

على صعيد الوظائف، يسطع نجم اختصاصيي البيانات، مهندسي الذكاء الاصطناعي، خبراء الأمن السيبراني، مصممي تجربة المستخدم، ومهندسي الطاقة المتجددة. كما يبرز دور المعالجين النفسيين الرقميين ومدربي المهارات المستمرة. في المقابل، تتراجع الوظائف الروتينية: من إدخال البيانات إلى الصرافين التقليديين، ومن النقل البري إلى التشخيص الطبي الروتيني. هذا الاستقطاب المهني يثبت ما أشارت إليه أحدث نظريات سوق العمل: توسّع الطرفين (المهارات العالية والخدمات الشخصية) واختفاء الوسط القائم على المهام المتكررة.

التحديات لا تقف عند حدود الاقتصاد، بل تمتد إلى الاجتماع والنفس. فالسرعة المذهلة للتحولات تخلق توتراً وقلقاً وجودياً لدى الأفراد، في حين يهدد الانقسام الرقمي بخلق فجوات اجتماعية خطيرة بين الفئات المتمكنة تكنولوجياً وتلك المحرومة منها. وهنا تكمن أهمية سياسات العدالة والشمولية التي نادت بها المدرسة المؤسسية، لضمان أن التحول لا يتحول إلى مصدر لانفجار اجتماعي.

في ضوء ذلك كله، يمكن القول إن ما يمكن تسميته بـ'نظرية العِلّة' أو 'الإطار السببي' يقدم تفسيراً عميقاً للتحولات الراهنة: فما يجري ليس وليد الصدفة، بل نتاج علل كبرى ـ التكنولوجيا، التحولات الديموغرافية، الاستدامة، العمل عن بُعد، واقتصاد البيانات. ومن يدرك هذه العلل ويحسن التعامل معها يكون الأقدر على صياغة المستقبل.

الخلاصة أن النجاح في هذا العالم الجديد لن يكون للأقوى جسداً ولا للأكبر حجماً، بل للأسرع في التكيف والأذكى في الاستثمار في الإنسان والتكنولوجيا. من يستوعب العلل الكبرى ويترجم النظريات الاقتصادية إلى سياسات واقعية مرنة، سيكون في المقدمة. أما من يكتفي بردود الأفعال التقليدية أو يقاوم التغيير، فسيجد نفسه خارج دائرة المنافسة بلا رجعة.


كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير