البنوك المركزية في زمن العواصف الجيوسياسية
د. عدلي قندح
جو 24 :
لم تعد البنوك المركزية مؤسسات تقنية محصورة في ضبط أسعار الفائدة أو إدارة الكتلة النقدية، بل تحولت في العقدين الأخيرين إلى مؤسسات حاكمة في قلب العاصفة الجيوسياسية والاقتصادية العالمية. فالتوترات السياسية والحروب باتت صدمات مباشرة لجانب العرض، ترفع الأسعار وتضغط على الإنتاج، فتجعل مهمة استقرار الأسعار أكثر تعقيدًا وتضع صناع القرار النقدي أمام معادلة دقيقة بين احتواء التضخم والحفاظ على النشاط الاقتصادي والاستقرار المالي.
التحولات الفكرية في علم الاقتصاد تكشف أن السياسة النقدية لم تعد تنتمي إلى قوالبها القديمة. فبينما افترضت المدرسة الكلاسيكية حيادية النقود على المدى الطويل، جاءت النظرية الكينزية لتؤكد على ضرورة تدخل الدولة والبنك المركزي في إدارة الطلب الكلي، غير أن المشهد العالمي المعاصر يشهد بروز مقاربة جديدة عابرة للمدارس، يطلق عليها ما بعد الكينزية، حيث يقتصر التحدي على ضبط التضخم عبر أدوات سعر الفائدة فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى إدارة توقعات الأسواق، ومعالجة هشاشة القطاع المالي، وربط السياسة النقدية بالبعد الاجتماعي والاقتصادي معًا.
تجربة البنك المركزي الأوروبي تعكس هذا التحول بوضوح، إذ لم يعد الحديث مقتصرًا على الاستقلالية بقدر ما أصبح يرتبط بقدرة المؤسسة على استخدام أدوات غير تقليدية مثل التيسير الكمي، وعلى تطوير خطاب تواصلي قادر على بناء الثقة. وهنا تلتقي هذه المقاربة مع ما جاء به الاقتصاد السلوكي الذي كشف أن التوقعات، وليست الأرقام وحدها، هي ما يحدد فعالية القرارات الاقتصادية. وقد جسد الفيدرالي الأميركي هذا البعد خلال أزمة 2008 وأزمة جائحة كورونا حين كانت رسائله للأسواق توازي في أهميتها القرارات نفسها.
إلى جانب ذلك، ظهر تيار حديث يتمثل في نظرية النقود الحديثة، التي تفترض أن الدولة صاحبة السيادة النقدية قادرة على تمويل إنفاقها عبر إصدار النقود دون أن يشكل العجز المالي خطرًا كبيرًا ما دام هناك فائض في الموارد غير المستغلة. غير أن التجارب العملية في الأرجنتين وتركيا أظهرت أن الإفراط في هذا النهج مع تدخل الحكومات في عمل البنوك المركزية يؤدي إلى تضخم مفرط وفقدان الثقة وهروب رؤوس الأموال. في المقابل، تقدم تجربة تشيلي نموذجًا مغايرًا، إذ تمكنت من ضبط التضخم وتحقيق استقرار نسبي من خلال الجمع بين استقلالية نقدية صارمة وانضباط مالي متماسك.
أما على المستوى الدولي، فإن توصيات صندوق النقد الدولي تشدد على مرونة سعر الصرف باعتباره خط الدفاع الأول، مع السماح بالتدخل المحدود والمؤقت عند وقوع صدمات حادة. هذه القاعدة النظرية تختلف نتائجها باختلاف التطبيق العملي؛ فالهند، مثلًا، طورت سياسة صرف مُدارة مدعومة باحتياطيات ضخمة مكنتها من امتصاص الصدمات، بينما عانى لبنان من انهيار شامل في عملته واقتصاده نتيجة غياب الاحتياطيات وتسييس السياسة النقدية.
الدرس المستخلص من هذه التجارب أن السياسة النقدية لا يمكن أن تعمل في فراغ، بل تحتاج إلى انسجام مع السياسة المالية والإصلاحات الهيكلية لضمان فعاليتها.
التحديات الحديثة أضافت بعدًا جديدًا لدور البنوك المركزية، إذ لم تعد المواجهة مع التضخم وأسعار الصرف وحدها، بل امتدت إلى حماية الأمن السيبراني وأنظمة الدفع من الاختراقات، والتصدي للحملات الإعلامية والمعلوماتية المضللة التي قد تزعزع ثقة الجمهور وتدفعه إلى الهروب نحو العملات الأجنبية، فضلًا عن إدماج البعد البيئي في السياسات النقدية كما بدأ يفعل بنك إنجلترا في سياق الاستجابة لتغير المناخ. بهذا المعنى، تحولت البنوك المركزية إلى مجالس أمن اقتصادي لا تقتصر مهامها على السياسة النقدية بل تشمل حماية الاستقرار الكلي والمجتمعي.
إن العالم المعاصر لا يحتاج إلى العودة إلى وصفات كلاسيكية أو حتى كينزية، بل إلى فلسفة نقدية هجينة تمزج بين مرونة الأدوات، وقوة الاتصال، وتكامل السياسات، ومناعة الاستقلالية. فالمصداقية والقدرة على إدارة التوقعات والانسجام مع السياسات الاقتصادية الأخرى أصبحت الركائز التي يقوم عليها استقرار الاقتصادات الحديثة. ومع تصاعد الاضطرابات الجيوسياسية وتكرار الأزمات المناخية والصحية والمالية، لم يعد السؤال هل تستطيع البنوك المركزية الصمود، بل كيف تعيد تشكيل نفسها لتبقى حجر الزاوية في معادلة الأمن الاقتصادي العالمي.








